عمرو منير دهب يكتب: المصلحة أقوى من الحقيقة.. الفصل السادس عشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

على صعيد تأمّل تواطُئنا جميعاً في لعبة الالتفاف على الحق/الحقيقة تبرز فكرة المصلحة بجلاء، فنحن أفراداً وجماعات أُسارى مصالحنا بدرجة أو بأخرى، بل نحن أسارى مصالحنا في المقام الأول، والاختلاف بيننا في هذا المقام يكمن في مدى الإذعان لأسْر المصلحة وشدة التلذذ بسطوة ذلك الأسر عبر حِيَل من قبيل التفنّن في نسج مبرراتنا وذرائعنا وتصديقها بغض النظر عن قابليتها للانطلاء على الآخرين.

بذلك، فإن المصلحة ليست فقط أقوى من الحق/الحقيقة، بل إنها تكاد تكتب الحقيقة كما يكتب كلُّ جيل التاريخ بناءً على رؤيته الخاصة. وهكذا تتشكّل الحقيقة في وجداننا بقدر مصالحنا التي تحيط بنا وليس بقدر ما تواضعنا مسبّقاً على أنه الحق/الحقيقة في أعرافنا أو قوانيننا.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الإعلام والحقيقة.. الفصل الخامس عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

وإذا كانت دلالة المصلحة تغري ابتداءً باستدعاء المنافع المادية إلى الخاطر، فإن الأدهى في معضلة المصلحة مع الحقيقة هو الجوانب المعنوية للمصلحة التي تتيح للمنتفعين بها مساحات شاسعة للالتفاف على الحقيقة وزوايا بلا حساب للتواري خلفها. المنافع المادية قابلة للحساب بدقة، وهي واضحة ابتداءً، في حين إن الجوانب المعنوية لا تتيح السبل للالتفاف على الحقيقة فحسب بل تكاد تقلب الموازين بحيث تغدو هي التي يُعاد تعريف الحق/الحقيقة استناداً إليها.

لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن المصلحة تطمس الحق/الحقيقة تماماً، فالآخرون خارج إطار مصالحنا يرون الحقيقة المتواضع عليها بصورة أكثر حياداً. نحن في الواقع ندرك الحقيقة المستقرة في لاوعينا/بصيرتنا (ضمائرنا بالمدلول الفلسفي) ولكننا نقاوم ذلك الإدراك ولا نسمح له بالقفز إلى وعينا إلا نادراً. وعندما نتذكر أن الحقيقة نسبيّة، فإن تلك النسبية تغدو إحدى أنفذ وسائلنا التي نستخدمها للتحايل على تغليب مصالحنا على الحق/الحقيقة.
في كتابه Eristische Dialektik: Die Kunst, Recht zu behalten، الصادر في ترجمته العربية بعنوان “فن أن تكون دائماً على صواب” عن منشورات ضفاف ببيروت ودار الأمان بالرباط ومنشورات الاختلاف بالجزائر سنة 2014، وتحت عنوان “الحيلة 35: المصالح أقوى من العقل”، يقول الفيلسوف الألماني ذائع الصيت آرثور شوبنهاور Arthur Schopenhauer: “بدل التأثير على الفكر بأسباب وجب التأثير على الإرادة ببواعث، والخصم مثل المستمعين، إذا كانت لهم نفس مصالحه، سينحازون فوراً إلى رأينا، حتى لو كان هذا الأخير آتياً مباشرة من جزيرة للحمقى. لأنه على العموم أوقية من الإرادة تزن أكثر من قنطار من الذكاء ومن القناعة. صحيح أن هذا لا يعمل إلا في بعض الظروف الخاصة. إذا كان بالمقدور تحسيس الخصم بأن رأيه إن كان صحيحاً سيسبب ضرراً معتبراً لأهدافه، فإنه سيتخلى عنه بسرعة كحديدة حمراء من التوهج أخذها بغير حذر. مثلاً، كاهن يدافع عن عقيدة فلسفية: يجب أن يوضح له أن هذه الأخيرة هي في تعارض مباشر مع عقائد أساسية في كنيسته، وسيتخلى عنها”.

يواصل شوبنهاور: “الشيء نفسه إذا كان المستمعون يشكلون جزءاً من طائفتنا نفسها، أو الجماعة نفسها، أو من نقابة الحرفيين نفسها، أو من النادي نفسه إلخ… وليسوا من طائفة الخصم. مهما كانت دعواه صحيحة، بمجرد أن نلمّح إلى أنها تخالف أهداف الجماعة المذكورة إلخ…، سيجد جميعُ المستمعين حجج الخصم، مهما كانت جيدة، ضعيفةً ورديئةً، وحججنا، بالمقابل، مهما كانت مختلَقةً من الرأس حتى القدم، صحيحةً وملائمةً. جميعاً، سينحازون إلينا، والخصم سيتراجع إلى الوراء خجلاً. سيظن المستمعون كذلك في غالب الأحيان أنهم اختاروا حسب قناعتهم المحضة، لأن ما هو غير ملائم لنا يبدو عموماً مخالفاً للعقل. ليس العقل نتيجة نور شاحب… إلخ Intellectus luminis sicci non est. يمكن أن تُعنوَن هذه الحيلة بـ: “مهاجمة الشجرة من الجذر”؛ وتسمى عادة: حجة المنفعة argumentum ab utili“.

معضلتنا مع الحق/الحقيقة إذن أكثر تعقيداً مما نتخيّل، فالمسألة ليس مجرد صراع أزلي بين الخير والشر باعتبار أن البشر يتوزعون بين فريقين، أو حتى بإضافة أن فريق الشر أكبر عتاداً وعدداً من فريق الخير، فالأدهى أن الخير والشر يتصارعان داخل كلٍّ منّا بصورة مستقلة، بل إن الشر يعتمل في أيٍّ منّا بحيث يفرض سيطرته على الخير بطريقة أو بأخرى في هذا الموقف وذاك، فإذا عزّ على الشر أن ينتصر على الخير فإن الأول لا يدع الأخير يهنأ بانتصار خالص بل يقدّمه له مشوباً بأحد المنغّصات بما يفسد نشوة النصر على الخير في معظم (كل؟) الأحوال فلا يدعها تستمر لأمد طويل.

الشر ليس دوماً واضحاً مستطيراً، ولعل أخطر أنواع الشرور أثراً ما بدا مراوغ الدلالة أو موحياً بكونه خيراً من وجهة ما. والمصلحة ليست كلها شراً بطبيعة الحال، فكثيراً ما تشتمل مصالحنا على خير ليس من شر واضح وراءه لنا أو لغيرنا. غير أن البشر، ودون أن ننسى أن تعريف/تحديد المقصود بالخير والشر في أي سياق معضلة في ذاته، لا يصبرون على حالة من السلام والاستقرار إلّا وقتاً عابراً يهرعون بُعيده إلى ابتداع التفاصيل التي لا يحتاج الشيطان إليها في الواقع ليمارسه عمله، فالعناوين البارزة كافية بدورها لإثارة خلافاتنا رجوعاً إلى مصالحنا التي تختلف بحيث تكون لأي منّا مصلحته الخاصة المختلفة بدرجة أو أخرى عن مصالح الآخرين حتى أقرب الناس إليه، ومن ثمّ يتشكّل تعريف كلّ منّا المستقل وغير الثابت للحق والحقيقة.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])