عمرو منير دهب يكتب: الإعلام والحقيقة.. الفصل الخامس عشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

هل يبحث الإعلام عن الحقيقة أم الإثارة؟ هل تنقّب وسائل الإعلام على اختلافها من أجل استخلاص الحقيقة الخالصة وتقديمها إلى المتلقي أم تحرص في المقام الأول على ما يرضي الذين يملكونها ويساهمون في تمويلها؟ هل من الممكن أن تروّج وسيلة إعلام لحقيقة تتعارض مع مصالحها؟

هذه الأسئلة بمثابة امتحان عسير لأية وسيلة إعلام تدّعي التجرّد أمام جماهيرها، غير أن وسائل الإعلام لا تبدو على كل حال متهيّبة أمام أسئلة من ذلك القبيل، فامتحان الإعلام هو تحدّي مهنية أكثر مما هو تحدّي مصداقية، وللدقة هو تحدّي تمرير ما تريد تمريره وسيلة الإعلام إلى الجماهير بصورة مقنعة بغض النظر عن مصداقيته.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الأكاذيب الدولية.. الفصل الرابع عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

مع العولمة، أصبحت الجماهير أكثر فطنة ودراية بما يقع حولها في محيط يشمل العالم بأسره، وإذ كان من المفترض أن يضع هذا الواقع (الجديد كليّة) وسائلَ الإعلام في حرج عظيم إزاء اختبار المصداقية فإن ذلك لم يحدث، والسبب في بساطة أن وسائل الإعلام هي من طرح الواقع الجديد ورسم ملامحه بأدق تفاصيلها أمام المتلقي. هذا، ولا يزال من الصعب تخيّل أن ينقلب السحر على الساحر فتنفضح وسائل الإعلام أمام جماهيرها لأن الأخيرة تظلّ في حاجة مستمرة إلى الأولى كي تستقي منها الأخبار والمعلومات.

غير أن الأهم على صعيد ترسيخ مكانة الإعلام ووسائله أن ما تقدّمه تلك الوسائل للناس ليس فقط معلومات وأخباراً أو حتى تحليلات توصف بالصادقة أو الكاذبة، وإنما إلى ذلك – وربما قبل ذلك – خدمات عديدة من قبيل المواد الترفيهية والأطروحات الفكرية بهدف التثقيف العام والقضايا العلمية المجردة على سبيل المثال. وعليه، فإن حاجة الجماهير إلى الإعلام تتجاوز ما يمكن الجدال بشأنه على خلفية الحقيقة نفاذاً إلى ما يجعل الجماهير أسيرة تلك الوسائل بأكثر من قيد ترفيهي ومعرفي. هذا مع ملاحظة أن اختبار المصداقية لا يزال متاحاً بدرجة أو بأخرى حتى إزاء العام من القضايا الفكرية وما يمكن أن يوصف بالمجرّد من المسائل العلمية، بل حتى مع المواد الترفيهية على اختلاف أنواعها.

الأدهى في سياق ترسيخ سطوة الإعلام على الجماهير – بما يجعل الإعلام يتجاوز محكّ المصداقية بدهاء – أن وسائل الإعلام يسدي بعضها إلى بعض خدمة جليلة بقصد وبدون قصد، فالجماهير عندما تكتشف (يكتشف بعضها، بصورة أكثر دقة) كذب/مراوغة/تحايل أي من وسائل الإعلام التي درجت على متابعتها فإنها لا تقوم بمقاطعة الإعلام جملة واحدة وإنما تنتقل (فيما تظنّه انتقاماً مستحقاً) من متابعة وسيلة إعلام كانت هي المفضلة لديها إلى ملاحقة وسيلة إعلام أخرى منافسة، وبذلك لا تتحرّر الجماهير من قبضة الإعلام ووسائله وإنما تفك قيد وسيلة بعينها لتضع أياديها، بل عقولها وقلوبها، تحت إمرة وسيلة أخرى.

تحت عنوان “وسائل الإعلام الجاهلة”، الفصل الأول من كتاب Myths, Lies and Downright Stupidity: Get Out the Shovel – Why Everything You Know is Wrong، الترجمة العربية عن دار العبيكان بالرياض سنة 2009 بعنوان “خرافات وأكاذيب وغباء محض: نقِّب عن الحقيقة، إذ كل ما تعرفه خطأ”، يقول جون ستوسل John Stossel: “السنوات الست والثلاثين التي أمضيتها بالعمل في وسائل الإعلام جعلتني مرتاباً في كل ما يصدر عنها. المراسلون المذيعون يحسنون إنباءنا بما يحصل اليوم؛ أي أبنية احترقت، أي جيش غزا، حجم الإعصار القادم. يخاطر هؤلاء المراسلون من أجل نقل تلك الأخبار إلينا. يجدر بنا شكرهم. ولكن عندما تتعلق الأخبار بالعلم والاقتصاد وبمخاطر الحياة المستقبلية فإن وسائل الإعلام تسيء العمل”.

تأتي بعد هذا الكلام الخلاصة التالية في مستطيل مظلّل بحسب نمط تحرير الكتاب:

خرافة: وسائل الإعلام تستقصي ثم تعطيكم الحقيقة الموضوعية.

حقيقة: كثير ممن يعملون في وسائل الإعلام جاهلون تماماً ويخيفونكم حتى الموت.

الأمر ليس مقصوراً إذن على الكذب أو المراوغة بداعي الإثارة أو المصلحة، فالجهل علة أخرى كما يذهب ستوسل الذي يواصل بداعي الإيضاح وربما بقدر لا يخفى من التبرير: “نحن لا نفعل ذلك عن قصد. إنما نريد أن نعطيكم الحقائق وحسب. ثمة أشخاص ينقلون إلينا قصصاً برعب وذعر فنرتعب بدورنا ونسرع لنقل هذه الأخبار إليكم”.

لكن ذلك التبرير المتعاطف يختفي سريعاً حتى لا يفقد الموضوع بريقه، فالكتاب مبنيّ أساساً على الجرأة الصادمة: “نحن نعلم أنه كلما ازدادت القصة التي ننقلها إثارة وإرعاباً طال الوقت الذي يعطينا إياه رئيسنا لبثها على الهواء أو ازداد احتمال نشرها في أول صفحة من الصحيفة. القصة المرعبة، سواء أكانت مهمة أم لا، تحسّن شهرة البرنامج وتزيد مبيعات الصحيفة. للخوف سوق رائجة”.

يتابع جون ستوسل عن تجربة شخصية مباشرة: “عندما كنت أعمل مراسلاً صحفياً تلقيت أمراً بأن أحذر من مخاطر صبغات الشعر، التنظيف الجاف، العلكة، السكارين، السيكلامات، محلي نترا سويت، النتريت، صباغ أحمر رقم 2، البطانيات الكهربائية، لافتات البوابات التلفازية في المطار، حشوات الأسنان، الهواتف الخلوية، رقائق البطاطا (الشيبس)، سلمون المزارع، التفلون، مضادات العرق، وحتى لعبة البط المطاطية. لقد رفضت تغطية معظم هذه القصص وأسأل نفسي اليوم إن كانت خطورة هذه الأشياء حقيقية فأين هي الجثث اليوم؟ لو أن عُشر الأمور التي اقترحها المراسلون كان حقيقياً لكان هناك اليوم موت جماعي. العكس هو الصحيح: رغم التعرض للإشعاع وكل تلك المواد الكيميائية السيئة يعيش الأمريكيون اليوم لمدة أطول من أي وقت مضى”.

رغم أن الجهل أو الخوف قد يدفعان إلى ترويج وتصديق المبالغات من قبل الإعلاميين والجماهير على السواء، فإن تحدّي الإعلام مع الحقيقة أشدّ تعقيداً من ناحيتين: الأولى تتجلّى في تحدّي الإنسان بصفة عامة إزاء الحقيقة مثلما عرضنا من قبل على أكثر من صعيد، والناحية الثانية تتجلّى في أن لوسائل الإعلام مصالح مباشرة في ترويج “الحقائق” التي تخدم من يملك ويستفيد من تلك الوسائل حتى إذا كان الواقع هو نقيض ما يتم ترويجه، أما كيف يمكن جعل “الحقيقة المروّجة” قابلة للتصديق أو على الأقل مستساغة، فتلك مسألة مهارة مهنية صرفة.

دور الإعلام في ترسيخ ما نظنه حقيقة هو دور خطير يتجاوز – من حيث القدم وأصالة الفكرة – وسائلَ الإعلام بمختلف أشكالها الحديثة مستقراً في فكرة قديمة قدم الحضارة الإنسانية تتمثل في ترويج أية قصة/إشاعة من خلال تناقلها بواسطة بضعة أفراد في مجتمع صغير أو عبر مجموعات ذات مهارات أكثر تطوراً لأداء الغرض ذاته في المجتمعات الكبيرة. يحدث الترويج أحياناً عفواً، ولكنه في الغالب يُخطّط له فيُحدث أثره بحسب قوة من يقوم بعملية الترويج.

والأمر كذلك، الحقيقة إذن من منظور إعلامي هي كلّ ما ينجح في أن يروج بين الناس فيصدقونه بعمق، سواء تم الترويج عمداً أو عفواً، وبغض البصر عن مدى المطابقة بين ما راج بالفعل وبين الواقع الذي لم يتسنّ للجماهير أن تطّلع عليه لأيٍّ من الأسباب.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])