عمرو منير دهب يكتب: الأكاذيب الدولية.. الفصل الرابع عشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

عمرو منير دهب يكتب

لا ريب أن المقولة الإنجليزية Kill or be killed، والتي هي حرفياً بالعربية “اقتُلْ أو تُقتَل”، لم تعد قابلة للتطبيق في المجتمعات الحديثة مثلما كان الحال فيما مضى، ولا نعني بـ”ما مضى” هنا الماضي مجملاً وإنما ماضي المجتمعات غير المدنية تحديداً، وبصورة أكثر دقة المجتمعات التي لم تكن تخضع لسلطة قوية معترف بها من قِبل الأفراد الذين ينتمون لذلك المجتمع بطريقة أو بأخرى. وعليه، فإن المقولة لا تنطبق على المجتمعات البدوية التي تخضع لتقاليد صارمة في الزعامة القبيلة والهرم الاجتماعي سواءٌ اليوم أو قبل مئات السنين، وفي المقابل تنطبق المقولة نفسها على أي مجتمع حديث في قلب أعرق الحضارات المدنية يفلت من سيطرة سلطة قوية معترف بها بداعي حرب تعصف به أو لغير ذلك من الأسباب. وجدير بالتنويه، أن الإشارة إلى القتل في هذا المقام لا تعني المراد بالكلمة حرفياً بالضرورة في كل الأحوال بقدر ما تعني الاعتداء على حقوق الغير أو الاستئثار بما هو مشاع على حساب الآخرين بأي وجه من الوجوه استعراضاً لقوة من قبيل ما (ماديّة في الغالب).

انحسار تجليات مقولة “اقتلْ أو تُقتَل” على أرض الواقع إذن من أفضال مفهوم السلطة القوية في أي مجتمع قبل أن يكون من بركات الحضارات المدنية الحديثة، بل إن الحضارات الحديثة تبدو متهمة بأنها لا تزال تمنح المقولة مجالاً واسعاً للتطبيق ليس داخل كل مجتمع وإنما بين المجتمعات – وتحديداً الدول – المختلفة، وذلك بما يصل في كثير من الأحيان إلى حد التطبيق الحرفي للمراد بالقتل في أبشع صوره في غضون دراما الحروب التي لا تنقطع في هذه البقعة أو تلك من أرجاء العالم، لتنتقل بذلك تجليات المقولة – كما يقال – مع ازدهار الحضارة حديثاً من الأفراد في المجتمعات المنفلتة لتغدو أبرز ظهوراً لدى الأمم في المجتمع الدولي الذي لا يزال والحال كتلك منفلتاً، أو – للدقة – خاضعاً لسلطة الأقوى من الدول يستأثر حسب سطوته بما يروقه من الثروات على حساب الأضعف مما جاوره أو بعد عنه. كل ما هنالك مما جدّ على صعيد تطبيق “اقتُلْ أو تُقتَل” مقارنة بين المجتمعات الصغيرة والمجتمع الدولي أن الأخير بات حريصاً على (وربما بارعاً في) أن يبرّر تعدّياته أخلاقياً لا ليبرئ نفسه من الإثم فحسب بل أيضاً ليضفي على صنيعه الشرعية وربما النُبل.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: مصداقية العقد الاجتماعي.. الفصل الثالث عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

يقول جون جي. ميرشايمر John J Mearsheimer في كتاب Why Leaders Lie: The Truth about Lying in International Politics، الترجمة العربية بعنوان “لماذا يكذب القادة والزعماء: حقيقة الكذب في السياسة الدولية” عن دار الفرقد بدمشق سنة 2016، يقول: “يمكن للقادة والزعماء في عالم السياسة الدولية أن يكذبوا بسبعة أشكال مختلفة. تخدم كل أكذوبة هدفاً محدداً بالرغم من أن أكذوبة واحدة يمكن أن تخدم أغراضاً عديدة”.

بعدها يشرع ميرشايمر في تحديد الأشكال السبعة لكذب القادة عل المستوى الدولي كما يراها وهي: التخويف حول تهديد خارجي، كسب ميزة استراتيجية، التكتم الاستراتيجي، صنع الخرافة القومية، الأكاذيب الليبرالية، الإمبريالية الاجتماعية، وأخيراً التكتم الحقير. تحت كل عنوان رئيس للأشكال السبعة يبيّن ميرشايمر المراد بذلك الشكل، ثم يسهب بعدها في فصول مستقلة في الحديث عن أشكال خمسة للكذب يطلِق عليها “الأشكال الخمسة من الزيف الاستراتيجي” وهي تلك التي يصفها بكونها تفيد الصالح العام خلافاً للأكاذيب الأنانية التي تفيد فرداً أو مجموعة محددة من الأفراد. فإذا علمنا أن ما يقصده بالأكاذيب الأنانية هما الشكلان: الإمبريالية الاجتماعية والتكتم الحقير، أصبح معلوماً بطبيعة الحال أن الأشكال الخمسة الأخرى هي التي يطلق عليها ميرشايمر مصطلح الأكاذيب الاستراتيجية.

يفتتح المؤلف الفصل الثالث من كتابه تحت عنوان “الكذب بين الدول” بقوله: “علق السير هنري ووتون، الدبلوماسي البريطاني من القرن السابع عشر ذات مرة بالقول إن السفير هو: رجل مخلص يرسل كي يكذب في الخارج من أجل خير بلاده. يحتضن هذا التعليق بشكل جميل حقيقة أن الدول تكذب على بعضها بعضاً، لأنها تعتقد أن الكذب يخدم المصلحة الوطنية”. لكن ميرشايمر يذهب بعدها إلى بيان أن “تعليق ووتون مضلل بمعنى أنه يوحي بأن الدبلوماسيين ورجال الدولة يمضون وقتهم بالكذب على بعضهم بعضاً بشكل روتيني”، مشيراً إلى أن الزعماء السياسيين والدبلوماسيين يقولون الحقيقة “أحياناً” أكثر مما يكذبون، وأنهم عندما يضطرون إلى الخداع فإنهم أكثر احتمالاً إلى اللجوء إلى التكتم وليس الكذب العلني، مبيّناً أن “السرية” – خلافاً لـ”التكتم الحقير” الذي يلجأ إليه القادة والزعماء حول أخطائهم الفادحة في سياساتهم لأسباب تعود إلى خدمة الذات والمصلحة الشخصية – إنما هي “منهجية تحترم الوقت لتطوير أسلحة واستراتيجيات يمكن أن توفر لدولة ما ميزة على خصومها”.

لا يلجأ جون جي. ميرشايمر في كتابه إلى محاكمة الكذب في السياسة الدولية أخلاقياً قدر ما يعمد إلى بيان “منافعه” و”أضراره”. في بداية الفصل الثامن من الكتاب تحت عنوان “الوجه الآخر للكذب الدولي” يقول: “لقد ركزت حتى الآن على الفوائد المحتملة للكذب الدولي. وتم التركيز على إظهار المكاسب التي يمكن أن يجنيها القادة والزعماء لصالح بلادهم جراء الكذب على بعضهم بعضاً أو على شعوبهم. على أية حال، هناك تكاليف وفوائد مرتبطة بالأشكال المختلفة للكذب الدولي، والتي سبق لي أن حددتها. يمكن أن يكون هناك ثمن يجب دفعه حتى عندما تمر الأكذوبة وتحقق الهدف المنشود”.

لعل من أكثر المواضع جدارة بالتأمل في كتاب ميرشايمر ما يورده عن مخاطر صنع الأسطورة (الخرافة) القومية، فعلى الرغم من كونه يرى أنه “من غير المحتمل أن يؤدي الكذب الهادف إلى الترويج للأساطير القومية إلى عواقب وخيمة على السياسة الداخلية والخارجية”، فإنه يرى أن القومية (أو ربما بالأحرى المغالاة في الوطنية/الشوفينية) يمكن أن تكون سبباً قوياً للحروب. غير أن الأدعى إلى الالتفات ضمن ما يورده ميرشايمر في هذا السياق هو إشارته إلى أن “السواد الأعظم من الناس عادة ما يكونون مولعين بأساطير أمتهم إلى درجة أنهم لا يدركونها على حقيقتها. وبدلاً من ذلك، يرون الأساطير على أنها حقائق مقدسة وليست أكاذيب أو تشويهاً لسجلات التاريخ… حتى النخب المثقفة يمكن أن تقع ضحية لهذه الظاهرة (التعطش من أجل السلطة ممزوجاً بخداع الذات) في بعض الأحيان، حيث ينتهي بهم المطاف إلى أنهم يصدقون أكاذيبهم التي أطلقوها، وفي هذه الحال لم تعد أكاذيب”.      عمرو منير دهب

ليس من الحكمة إذن تحميل القادة وحدهم تبعة “صنع الخرافة الوطنية”، فالجماهير حتى إذا كانت بريئة من عملية نسج تلك الخرافة فإنها لا ريب تغدو “متواطئة” في ترويجها والعمل على إبقائها حية ومزدهرة عندما تتلقفها بحفاوة وتُصمّ آذانها في مواجهة أي تعليق “عقلاني” بشأنها. ولكن هل الخرافة الوطنية هي شكل الكذب الدولي الوحيد الذي تبدو الجماهير متواطئة فيه مع قادتها بصورة ما؟ ألا تقبض الجماهير كثيراً من قادتها متلبساً بالكذب فتثور بدرجة أو أخرى ثم ينتهي بها المطاف إلى أن تتجاوز عن ذلك الكذب كأنه لم يكن، سواء بدافع الخوف أو الكسل أو قلة الحيلة؟

مِن دون جماهير تقبل تمرير الكذب في السياسة – أيّاً كانت الدواعي – لا يجرؤ قائد أو زعيم على مجرد التفكير في الكذب. والحال كتلك، ألا يبدو القادة والزعماء كما لو كانوا يبزّون علماء النفس في معرفة الخبايا النفسية للجماهير التي يحكمونها؟          عمرو منير دهب     

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])