الممرضة الصالحة: لا تمنح كامل ثقتك لأحد

نورا غنيم                                    الممرضة الصالحة: لا تمنح كامل ثقتك لأحد

مازالت الأفلام المأخوذة عن قصص حقيقية لها بريق خاص؛ حيث ينتظرها الجمهور والنقاد بشغف، خاصة حين تكون ذات بُعدٍ نفسي وتتناول عالم الجريمة بطريقة مشوقة.

هذا ما حدث في الفيلم الأمريكي “الممرضة الصالحة The good nurse” الذي أطلقته منصة NETFLIX مؤخرًا للمخرج الكندي “توبياس لينهولم” والذي قام ببطولته نجما الأوسكار “جاسيكا جاستاين” و”إيدي ريدماين”.
يشير صناع الفيلم إلى أنه مأخوذ عن واقعة حقيقية حدثت في ولاية نيوجيرسي الأمريكية خلال عامي 1998 و 2003.. والتي كان بطلها “تشارلي” الممرض الذي قضى 16 عام في المؤسسة الصحية الأمريكية، متنقلا بين تسعة مستشفيات، والذي كان يقتل المرضى بهدوء عبر حقنهم بالأنسولين في جرعات المحاليل، والذي تكتمت المستشفيات على جرائمه خوفًا على سمعتها مكتفين بطرده، حتى زامل الممرضة “إيمي” ونشأت بينهما صداقة عميقة، استطاعت بعدها وبشجاعة التعاون مع الشرطة والكشف عن جرائمه التي قدّرها الخبراء بما يقرب من 400 قتيل.. حيث سُجن بعدها للأبد، رافضًا الاعتراف بأسباب ارتكابه لهذا الشر المرعب.

نرشح لك: “الغرفة 207” بين الرواية والدراما.. اختلاف في الأحداث ومساحات الأبطال!

إيمي: ممرضة جميلة وهادئة وأم وحيدة لطفلتين.. متفانية في عملها ولا تفارقها الابتسامة في البيت ولا في وجه مرضاها في غرف العناية المركزة.. يضعون حياتهم بين يديها في أمان ومحبة؛ فهي تعلم جيدا أن قليل من العناية واللطف يعني الكثير لمرضى على حافة الخطر.

ربما يتوقع المشاهد أن امرأة صالحة كإيمي تجد كل الاحترام والتقدير والرعاية من مجتمعها الأمريكي، الذي من المفترض أنه يُعلي من قيم حقوق المرأة ورفعة شأنها.. لكن للأسف مع أول أزمة صحية تواجهها إيمي تسقط كل شعارات حقوق المرأة التي يتشدق بها المجتمع الأمريكي، وعندما يتم تشخيص حالتها المرضية بضعف شديد في عضلة القلب، ووجوب خضوعها لعميلة بسرعة لأن حالتها تسوء يُظهر نظام العمل الأمريكي وجهه القبيح.

فالنظام الصحي يُلزمها بالعمل في المشفى لمدة عام حتي تستطيع الحصول على التأمين الصحي لإجراء العملية.. إنه نظام صحي قاسٍ وهادف للربح يفضحه الفيلم، إنه لا يتعامل برفق سوى مع الأثرياء، يضحي بصحة العاملين فيه مقابل المال، يمنعهم حتى من أن يكونوا لطفاء ومُحبين، لا فرق فيه بين رجل وامرأة؛ فالجميع سواء تحت مقصلة الرأسمالية المتوحشة التي تنهار داخلها كل الشعارات الحقوقية الرنانة.. فقد تُركت إيمي وحيدة ومريضة تصارع نظاما صحيا يقتلها ببطء بينما هي لا تملك سوى مبادئها ولطفها الشديد مع الجميع.

تشارلي: (موتى على أسرتهم.. وقاتل يتنقل بين المستشفيات بكل هدوء ونعومة).. من أكثر مساوئ النظم البيروقراطية هو الاعتقاد بأن أي خلل أو فشل داخل المؤسسة بالتأكيد ليس سببه سوء النظام أو عقم القوانين؛ ولكن سوء الموظفين بالمؤسسة وضعف أدائهم، مما يهدد مناصب المديرين وأمان العاملين فيفتح الأبواب للتحايل على القانون والتواطؤ مع الأخطاء خوفًا من العقاب أو فقدان المنصب والمال.
وبالتأكيد هذه هي إجابة السؤال الأكثر أهمية الذي بنيت عليه أحداث الفيلم ألا وهو “كيف استطاع تشارلي الهروب بأفعاله الإجرامية من 9 مستشفيات لمدة 16 عاما دون أية مساءلة؟!”
وقد أجاب تشارلي بنفسه على هذا السؤال في جملة بسيطة لكنها عميقة وصادمة “لم يمنعني أحد”.

إن النظام الصحي الذي وضع العراقيل أمام إيمي في العمل والعلاج هو النظام نفسه الذي تستر فيه مديرو المستشفيات على جرائم تشارلي خوفًا على مناصبهم واكتفوا فقط بطرده من المستشفى بحجج واهية، بل وعرقلوا تحقيقات الشرطة.

لكن إيمي تأتي بجسدها المريض واضعةً حياتها المهنية والصحية على حافة الخطر؛ إذ تقرر التعاون مع الشرطة لكشف حقيقة تشارلي وإقناعه بالاعتراف بجرائمه، وفضح مؤسسة بأكملها بينما سلاحها الوحيد في رحلتها الشجاعة هذه هما (اللطف والرقة).

تأتي غرابة وجرأة الفيلم في تقديم الجرائم وحجب التعرف على الدوافع، على عكس النمط المتعارف عليه في أفلام الجريمة، حيث (رفض تشارلي الإفصاح عن سبب ارتكابه لجرائمه).. ربما كان هذا منطقيا لأن البطل الحقيقي للقصة رفض الاعتراف بدوافعه للقتل، لكن الفيلم لم يعطنا أية نبذة عن تاريخه حتى نتمكن من استنتاج الدوافع.. فغموض شخصية تشارلي للنهاية وترك المشاهد في حيرة فكرة جريئة وجذابة لكنها لن تروق للكثير من المشاهدين.

توبياس: بجوار بطلي الفيلم إيمي وتشارلي جاء المخرج الدنماركي (توبياس ليندهولم) بطلا ثالثا للفيلم؛ فقد أخرج دراما مخيفة ومرعبة لكنها بسيطة جدًا ومتناسقة في بساطتها مع النعومة التي ارتكب بها تشارلي جرائمه.

فقد وضع “توبياس” المُشاهد منذ اللحظة الأولى في حالة من الترقب والقلق حتى عندما لا يكون هناك ما يدعو للخوف. وهكذا خرجت مشاهد المستشفى (المسرح الرئيسي للأحداث) من أفضل مشاهد الفيلم.. الديكور الرمادي الباهت وكثرة الممرات وضيق الغرف مع الإضاءة الخافتة في معظم المشاهد والتي جعلت المستشفى أقرب للسجن البارد المريب، والذي يضغط بجدرانه على إيمي ويحرمها قدرتها على التنفس والحركة بينما يتجول تشارلي في أركانه بسهولة ويسر.

لم يستسلم (ليندهولم) في الفيلم لأية مؤثرات صوتيه أو خدع بصرية ليخلق حالة من الخوف والتوتر؛ لكنه اعتمد بشكل أساسي على براعة بطليه في الأداء.. حيث “جاسيكا جاستين”/ إيمي بجسدها النحيف وملامحها البسيطة المُجهدة طوال الفيلم وأدائها الذي مزج بين مشاعر الألم من ضيق الحال وضيق التنفس ومشاعر الحب والعطف التي تهديها للجميع بما فيهم تشارلي؛ لتقدم (جاسيكا) مشهدها الأجمل في الفيلم (عندما تأكدت من حقيقة تشارلي الإجرامية وعادت لمنزلها ففوجئت به يلعب مع طفلتيها) وعبر تعبيرات وجهها فقط وصوتها المخنوق مزجت في روعة بين الخوف والصدمة ومحاولات الهدوء والتركيز لإخراجه من المنزل في أسرع وقت.

أما “إيدي ريدمان”/ تشارلي فيعتبر اختياره للفيلم منطقي أكثر منه مفاجئ أو متميز.. وفريدمان معروف بأدائه الهادئ وملامحه الناعمة والتي توافقت تماما مع شخصية تشارلي (الهادئ المنطوي) ورغم مشهده الوحيد الذي خلع فيه قناع السلام والنعومة وعبر فيه عن روحه المضطربة ونفسه المريضة (عندما صرخ طويلا في وجه المحققين رافضا الاعتراف بدوافع جرائمه) فلم يتسنّ لنا سوى التعاطف معه لما حملته هذه الصرخة من آلام وجروح قرر تشارلي الاحتفاظ بها لنفسه للأبد بعيدًا عن أعين الشرطة سابقًا والمشاهدين حاليًا.
“الممرضة الصالحة” فيلم جيد يستحق المشاهدة والتأمل في طبيعة الخيط الرفيع بين الصالح والفاسد، وما ينتج عن تقاربهم الشديد من اضطراب وضبابية في الرؤية.. ولعله بين ثنايا هذا التأمل يبعث إلى مُشاهدِهِ رسالةً مؤداها: لا تمنح ثقتك الكاملة لأحد سواءً كانوا أفرادا أو مؤسسات، كُن دائما على حذر.. ففي الحذر نجاة.

الممرضة الصالحة