فادي عاكوم يكتب: منى واصف والغناء بأوتار الآلهة

منى واصف
رغم عدم شعبيتها إلا أن قدر آلة الهارب الوترية كأن أن عادت إلى موطنها الأصلي على يد أبناء هذا الوطن، وتحديدا على يد قتيات وسيدات هذا الوطن، ونحن هنا لا نتكلم عن أي وطن، بل نتكلم عن مصر التي قام ابنائها في العام 3500 قبل الميلاد باختراع هذه الآلة الوترية التي كانت مخصصة للأناشيد الدينية أيام الأسر الملكية المصرية المتعاقبة على الحكم آنذاك.

ورغم صعوبة إتقان العزف على هذه الآلة الراقية، إلا أن ادكتورة منى واصف أصرت على التحدي، وبدأت بتعلم العزف عليها منذ سن الثامنة، إلى أن حصلت على درجة الدكتوراه في الموسيقى وأصبحت إحدى أبرع لاعبات هذه الآلة وأبرز معلميها، فلديها جيش صغير من الفتيات اللواتي خطفهن شغف هذه الآلة فزادت منى من هذا الشغف إلى أقصى الحدود.

نرشح لك: فادي عاكوم يكتب: في حب مي مختار


ولسبب لا يمكن تحديده بدقة فإن أبرز لاعبي هذه الآلة الوترية حول العالم هن من النساء، وغالبا فإن الأمر يعود إلى رقة صوتها وارتباطها بالأناشيد الدينية الرقيقة التي تقرب الإنسان من الآلهة، حتى إن الجداريات الأثرية تؤكد أن الآلة ارتبطت بالمعابد الدينية وغيرها وغالبا ما ظهر معها عازفة ناي، ونفس الأمر اكتشف في الحضارة الأشورية وبعدها في سورية.

آلة الهارب بيد الدكتورة واصف تنطق جملا كاملة من خلال الأوتار، فمن يتابع حفلاتها في دار الأوبرا المصرية سيكتشف الأمر من أول معزوفة، ولكل حفلة مذاقها الخاص ولكل حفلة امتياز عن الأخرى بتنسيق المقاطع التي يتم تقديمها وهذا أمر ربما يكون أصعب من العزف على هذه الآلة نفسه، بحيث يتلقى الحضور المعزوفات بأنسياب جميل ينقله إلى عالم آخر قريب من كل شئ إلا الواقع الذي يعيشه.

وينبغي التنويه بأن هذه الآلة وعازفيها بحاجة إلى الترويج الواسع بين متذوقي الموسيقى، فالعديد من هؤلاء يتهربون من هذه الحفلات لظنهم بأن الحفلة ستكون من دون روح على الإطلاق، حتى إن صديقة لي عندما دعيتها إلى حفل للدكتورة منى أجابت”هارب؟ سوف أصاب بهارب أتاك إن حضرتها) لعدم معرفتها بجمال الآلة وما يمكن أن تضيفه للروح والعقل.

في حفلها الأخير بدار الأوبرا قدمت منى مجموعة منتقاة بعناية من المعزوفات الشرقية والغربية، وكانت المفاجاة بأن الحضور انساقوا معها إلى أقصى حدود، فتفاعلوا بشكل جميل جدا، وتنقلت أنامل الراقية واصف بين المعزوفات الكلاسيكية والشرقية والغربية التقلدية والحديثة وحتى الصوفية بطريقة غريبة، تؤكد ضلوعها بكافة مدارس هذه الآلة.

نعم لهذه الآلة الكثير من المدارس التعليمية حول العالم وللأسف ليس بينها أي مدرسة شرقية رغن أن الشرق هو موطنها الأم، فبعد انتشارها على يد الفراعنة وبعدهم الآشوريين والفنيقيين ومن ثم اليونان والإغريق، حافظت على شكلها الأساسي العادي بعدد أوتار يصل بأقصى الحدود إلى 18 وترا، إلى أن وصل إلى الأوروبيين وتحديدا الفرنسيين الذين زادوا عدد الأوتار الذي حاليا إلى 48 وترا مع دواسات ومفاتيح تتيح الانتقال السلس بين الدرجات الصوتية المطلوبة، ورغم تخصص العديد من عازفات الهارب بمدارس محددة خاصة الأميركية والفرنسية والروسية إلا أن واصف يبدو أنها متمكنة من جميع المدارس ولهذا ترى الآلة نفسها والأوتار تتمايل مع أناملها قبل الجمهور نفسه.

وتجدر الإشارة إلى أن منى (مع حفظ الألقاب) وباختيارها إلى العازفين الذين رافقوها بحفلتها الأخيرة أحسنت إلى أقصى الدرجات، ولن أبالغ وأقول بأن اختيارها للعزف المنفرد تارة والعزف الثنائي مع المونتر باص أو الفيولون تارة أخرى مع إشراك الجيتارة والدرامس، نقلت الآلة إلى العالمية، وتشابهت المعزوفات مع أشهر المعزوفات التي يتم تقدميها بشكلها العصري يأني وجأن ميشال جار، الذين يجذبون المستمعين والعشاق للفن من كل دول العالم.

فلما لا نستغل هذا الأمر لتطوير موسيقى الهارب مع فرقة كبيرة تضم كل الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية بقيادة الهارب لتقديم الروائع الشرقية والغربية على حد سواء لتكون علامة فارقة في تاريخ الفن العصري، وفي الوقت نفسه يعود الفضل لأصحابه وتعود الآلة إلى موطنها الأصلي.. أرض الحضارة الحقيقية مصر.

فألف تحية للدكتورة منى واصف ولتلامذتها وعشاق فنها لأنهم نواة لمشروع كبير ومستقبل جميل مليء بالموسيقى الحالمة.

نرشح لك: فادي عاكوم يكتب: ستات المدينة