عمرو منير دهب يكتب: حقيقة المرأة والرجل.. الفصل السابع من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

“كانت جون راينيش June Reinisch ، وهي المدير السابق لمعهد كينزي في جامعة إنديانا، كانت واحدة من العديد من الباحثين الذين أخبرونا أن بعض الفروق بين الجنسين خَلقية متأصلة. فحتى الأطفال حديثو الولادة (الرضّع) يتصرفون بشكل مختلف حسب الجنس. قالت لي: الذكور (يرتكسون) أكثر من الإناث، إذا نفخت الهواء على بطونهم فإنهم يجفلون أكثر من الإناث. كما قالت لي: إن الإناث من الرضّع يستخدمن أفواههن بطريقة إيقاعية مميزة (يمصصن ألسنتهن ويحركن شفاههن أكثر من الرضّع الذكور). لم يخضع الرضع إلى أفكار المجتمع المسبقة حول الجنسين، لقد أبدوا اختلافاً منذ الولادة”.

 

يواصل جون ستوسل John Stossel في كتاب Myths, Lies and Downright Stupidity: Get Out the Shovel – Why Everything You Know is Wrong، الترجمة العربية عن دار العبيكان بالرياض سنة 2009 بعنوان “خرافات وأكاذيب وغباء محض: نقِّب عن الحقيقة، إذ كل ما تعرفه خطأ”. يواصل ستوسل: “الاختلاف لا يعني أن أحد الفريقين هو الأفضل. بالنظر إلى قوة الرجال ومهاراتهم بالهندسة الفراغية لا غرو أن يكون معظم المهندسين والرياضيين من الرجال (طالما لا تمنع الحكومة النساء من تلك الأعمال). وبالنظر إلى مهارات النساء المتفوقة في التعبير بالكلمات والتعامل مع الناس (كثير من الأبحاث تثبت ذلك) لا غرو أن يكون معظم المدرسين وعلماء النفس والصيادلة ووكلاء العقارات من النساء. لندع الكل يعمل ما يحب وما يبذ به. من الأفضل التصرف وفقاً لحقيقة الواقع وعدم التصرف وفقاً لفكرة شخص ما حول ما يجب أن تكون الحقيقة. والحقيقة هي أننا مختلفون”.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: نحن الممثلين.. الفصل السادس من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

لم تكن فكرة الفروق بين المرأة والرجل منذ فجر التاريخ مجرد حقيقة، بل حقيقة في مرتبة البديهية التي لا يطرأ على بال أحد من الجنسين أن يجادل بخصوصها، والواقع أنها كانت بديهية إلى درجة أن الناس لم ينشغلوا بتعداد تلك الفروق وإنما الاكتفاء بإجمالها في فارق واحد معروف بذاته لا يحتاج للدلالة عليه إلى أكثر من الكلمتين: رجل وامرأة.

ولكن الناس (ربما النساء تحديداً في هذه الحالة) كثيراً ما يكونون مدينين لفكرة تجاوز البديهية/الحقيقة من أجل تحقيق إنجازات فريدة ظلت لأمد طويل في حساب المستحيل، فلو استسلمت البشرية لأفكارها الراسخة التي نشأت مع بدايات حياة الإنسان وتكوين المجتمعات الأولية لما تحقق إنجاز ذو بال، وكنّا على الأرجح سنظل على حالة بدائية من العيش بشكل أو بآخر. غير أن ذلك ليس ممكناً على أي صعيد إلا عبر افتراض نظري، فالتغيير وتحطيم المسلّمات هو بالفعل سنّة وجودية وقدَر لا يبدو أن ثمة مفراً منه، كل ما هنالك أن شكل التغيير والمدة اللازمة لحدوثه يتفاوتان بصورة تتجاوز التوقعات، والأكثر إثارة وغرابة أننا لا نمضي دوماً صُعداً في اتجاه “تطوّرنا”، لا سيما على صعيد الأفكار المجردة والمشاعر، بل كثيراً ما نرتدّ إلى فكرة سابقة أو عاطفة نظن أننا تخلصنا منها إلى الأبد، وذلك على المستوى الفردي وعلى الصعد الجماعية في أي سياق وباختلاف الأزمنة والأماكن.

“حقيقة” اختلاف الجنسين لا تعني بطبيعة الحال أن هناك من الأعمال – على أي صعيد – ما يستأثر به أحدهما دون الآخر، وإنما تعني مجملاً أن ثمة ما يميّز أحدهما عن الآخر من حيث الاستعداد الفطري، حتى إذا كان الشغف يدفع أحد الجنسين في حقبة ما إلى الاضطلاع بما ظل الجنس الآخر مستأثراً به، وبضرورة ملاحظة أن فرداً أو حتى مجموعات من النساء قد تبرع في زمن ما فيما ظلّ حكراً على الرجال على أي صعيد، والعكس.

الفرق بين المرأة والرجل في القدرات الفطرية هو إذن كما يشير كتاب جون ستوسل أمر واقع وليس خرافة أو تحيّزاً، وهو كما يشير الكتاب أيضاً أمر واقع قد يعمل لصالح هذا الطرف مرة ولصالح الطرف الآخر مرة، ولعل تلك هي المشكلة، فمُنكرو هذا الأمر الواقع يخشون من أن يفضي أي كشف أو إثبات علمي على هذا الصعيد إلى تقنين تحيّز ضد أي من الطرفين (غالباً المرأة) يستغله الطرف الآخر لصالحه. وبهذا، يبدو كما لو أن المجتمعات الحديثة باتت تفضّل نصرة الطرف الضعيف أو المظلوم وتعلي من شأن تلك النصرة حتى على حساب ما قد ظل يُنظر إليه بوصفه حقيقة أو بديهية، وقد رأينا على كل حال أن صنيعاً من ذلك القبيل لم يخلُ من مزايا حيث سمح بتحقيق إنجازات لم تكن متوقعة، ما يغري بالقول بأن تجاوز ما نتواضع على أنه حقيقة لن يفضي بالضرورة إلى تبنّي كذبة بل يؤدي إلى تشكيل أمر واقع جديد في كثير من الأحيان، وستتباين المواقف تجاه ذلك الواقع الجديد بطبيعة الحال.

يمكن إذن تضييق الفجوة بخصوص اختلاف آرائنا حول مدى تباين القدرات الفطرية بين المرأة والرجل من خلال الإقرار ابتداءً بأن ثمة قدراً من الاختلاف الفطري في الاستعدادات على مختلف الأصعدة ثم العمل على تدريب ودعم الطرف الأضعف – سواء المرأة في هذا المجال أو الرجل في ذاك – ليتجاوز نقاط ضعفه (الملحوظة واقعياً على الأقل) ويحقق أقصى ما يمكن أن يحققه. ومن الحكمة الانتباه إلى أن دعم الطرف الأضعف لن يفضي في الغالب إلى تفوقه على الطرف الأقوى لأن الأخير لن يقف مكتوف الأيدي وهو يدعم “ندّه” بل سيستفيد من كل الإمكانيات المتاحة بدوره لتطوير قدراته التي هي أصلاً تمتلك أفضلية فطرية عل حساب الطرف الآخر.

هكذا إذن، وحتى إذا كان من الصعب قلب أو تغيير ما نتواضع على أنه حقيقة بخصوص استعدادات المرأة والرجل الفطرية، فإن أفضل ما تسفر عنه مواجهة تلك الفطرة – أو على الأقل ذلك الأمر الواقع في فترة بعينها – هو السماح للطرف الأضعف بخوض التحدّي والبلاء فيه على قدر ما يستطيع لإرساء أمر واقع جديد لا يخلو من المزايا (ولا يسلم من عيوبه الخاصة في الوقت نفسه) على حساب الواقع القديم.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])