فادي عاكوم يكتب: حين تنتفض الأنثى

فادي عاكوم
لاحظت منذ فترة ربما تمتد لسنوات منذ مجيئي لمصر، بأن هناك هجمة أنثوية على الكتابة، إن كان في مجال كتابة الروايات أوالقصة القصيرة، وبما أني متابع للساحة الثقافية واختلط بالكثير من الكاتبات والكتاب تعرفت على مجموعة جميلة من أصحاب العقول النيرة، مما دفعني إلى التعرف عن قرب عن هذا الأدب الأنثوي اللافت غير الموجود بأي بلد عربي آخر، فالأنثى حين تنتفض تفيض بكمية كبيرة من المشاعر المكبوتة بطريقة ادبية سلسة تلامس الواقع لأنها منبثقة منه، وعليه فإن هذه الكتابات لا تعتبر كتابات إبداعية فقط، بل من الممكن إدراجها تحت تصنيف الكتب الاجتماعية والنفسية ومراجعتها وأخذ التوصيات منها والعمل على إيجاد الحلول باعتبارها عاملا مساعدا لبناء مجتمع سوي.

من الأعمال التي اخترت أن أغوص بها، رواية “سنوات من التيه” للكاتبة ميرهان خليل الصادرة عن دار النخبة في القاهرة في العام 2021، وصودف أني حضرت مناقشة الرواية قبل قراتها ودفعني الانزعاج من طريقة المناقشة وقتها إلى المغادرة مبكرا بسبب الهجوم الغير مبرر على الكاتبة وبطريقة غير منهجية وغير دقيقة، حتى خيل إلي يومها أن من ناقش الرواية لم يلقوا نظرة عليها وتيقنت من الأمر بعد قراتها.

نرشح لك: فادي عاكوم يكتب: المقاومة الجميلة


سنوات من التيه وبعد الغوص بتفاصيلها، اعتبرها أيقونة لكل فتاة تزوجت قبل أن تبلغ فكريا، وقبل أن تنهي دراستها الجامعية، وتم منعها عن الدراسة وإجبارها على الإنجاب بسن مبكرة جدا، يجب تكون خلالها غائصة في بحور المعرفة والعلم، بدلا من التحول إلى زومبي معرفة.

لا أعلم مدى نسبة السيرة الذاتية للكاتبة في الرواية، لكنه من الواضح أنها وضعت سيرتها الذاتية بكل أوجه القباحة فيها، لتكون صرخة مدوية ووسيلة إلى القفز للبر الآخر المتمثل بتحقيق الذات والأحلام أوعلى الأقل جزء منها لإكمال الطريق، والمشكلة بل الطامة الكبرى أن الكاتبة تعاني من مرض السرطان المزمن الذي أوصلها لأكثر من مرة إلى تسليم الأسلحة وانتظار ملاك الموت بأي وقت، لكن حظها، بل ربما ربنا أراد بأن تستمر حياتها لتعوض عما أصابها من كوارث نفسية وشخصية قد تؤدي إلى السير في طريق النهاية للكثير من الأشخاص.

الرواية قد تصنف بأنها سيرة ذاتية لو اعترفت الكاتبة بأن الأحداث حقيقية وتعرضت لها فعلا، ولو صح الأمر فنحن أمام كارثة فعلية، والرواية بحد ذاتها كفيلة بإدانة المتورطين أمام المحاكم دون ادنى ريب، أما لو كانت من وحي الكاتبة فلترفع لها القبعة لأنها استطاعت كشف ما تتعرض له النسوة المعنفات المغتصبات المقهورات، وهذا أمر نادر في مجتمعنا الشرقي الذكور.

الكاتبة اعتمدت السرد السهل القريب من القارئ، فلا كلام منمق أوكلام متذاكي، بل كتبت ما نقوله في أحاديثنا العادية مع مراعاة اللغة بدقة متناهية، ويحسب للكاتبة الصراحة الجارحة التي تفتقر اليها معظم كاتبتنا اللواتي تعانين من ظلم الأهل والأم تحديدا، ورغم أني أعارضها على وصف الأم في الرواية بوصف مهين جدا إلا أن تصرفات الأمر تثبت التوصيف بدقة، وكان بالإمكان تأجيل الوصف لعدم صدم القارئ “الشرقي” بطبيعة الحال، لكن التوصيف كان بمكانه الزمني والأدبي فهي أرادت التوصيف قبل الشرح وهي حرة في مساحتها بين أغلفتها، وكسرت الكاتبة التابوهات المجتمعية بكل صراحة بتوصيفها للكثير من الأحداث إن كان بعلاقة البطلة حنين مع والدتها أومع زوجها حتى استطاعت وصف العلاقة الحميمية معه بأنها اغتصاب فعلي لأنها تتم دون إرادتها بل مع ممانعة صريحة منها.

نرشح لك: فادي عاكوم يكتب: سامح بياع الكتب!


ربما يكون أجمل ما في العمل اللجوء إلى الرب، فبالعادة أي شخص يحس أنه محاصر من مجتمعه قد يلجا إلى أي شيئ يخرجه من واقعه، لكن الكاتبة جعلت البطلة تلجا إلى الحجاب والخمار والدروس الدينية للهروب من واقعها، لكنها أصيبت بصدمة جديدة تضاف إلى صدماتها بالدين المزيف، دين الدروس والبروباغندا الإعلامية الفارغة البعيدة عن الدين، وتاكدت أن كل الشعارات والدروس ليست إلا كلاما مستهلكا لا قيمة له ولا ولن يساعدها في مشكلتها مع زوجها وبيتها وبقية العائلة.

العامل الأساسي في الرواية بالإضافة إلى البطلة كان المرآة، التي ظهرت بمشهدين فقط، باول الرواية كعامل محفز في البدء حيث تظهر صورتها كفتاة ابنة السادسة عشر من العمر لتعطيها القوة لوقف ما تعاني منه، وفي النهاية لتعطيها حافزا إضافيا لاستكمال انتفاضتها على الواقع والاستمرار بحياتها واتخاذ قرار الانفصال والاستقرار، وقد تكون صورة المرآة مكررة لكن الكاتبة أحسنت التوظيف بالطريقة التي استعملتها وعدم تكرارها وجعلها كمقدمة وخاتمة فقط.

أما النقلة الجميلة التي اعتمدتها الكاتبة فكانت بين الأدب والعلم في الفصول الثلاثة الأخيرة، علما أن الكاتبة تلقت دبلوما في الصحة النفسية من جامعة عين شمس قبيل وأثناء كتابتها للرسالة مما أتاح لها الاستفاضة بشرح الكائنات التي رافقت حياتها ومدى تاثيرها عليها بطريقة علمية صرفة، وهذا أمر يحتسب لها لكنه يؤكد بالوقت نفسه نظرية انها كتبت سيرة ذاتية ووضعت لها أسس لحل النفسي وهي خطوة قلما تطرقت لها الكاتبات اللواتي يكتفين بأسلوب عرض المشكلة والواقع الأليم، فكمجتمع شرقي لا نزال لا نتقبل تماما فكرة الطب النفسي، ونعتبر من يخضع لهذا العلاج مجنونا أوإنسانا غير سوي، لكن الكاتبة وصفت الطب النفسي بأنه كأي طب آخر وأمراضه كأي أمراض أخرى لها علاجها وأدويتها، واللافت أيضا توصيف الحالات بدقة علمية بسرد أدبي بحيث لا تحس بأنك تقرأ التوصيف العلمي على الإطلاق بل إن الفصول الثلاثة ليست إلا خاتمة الرواية نفسها.

فالبطلة حنين بعلاقة إدمانية اعتمادية مع طارق وهي حالة مرضية تصيب أي طرف من الطرفين لكنها وصلت إلى حالة متراجعة طبيا حتى أن جسدها لم يكن يفرز هرمون الدوبامين المسؤول عن السعادة إلا بعد علاقة جنسية نتيجة خلاف قوي وعلاقة مفروضة فرضا، أما طارق زوج البطلة فهو بحسب توصيف الحالة شخص نرجسي يعشق الارتباط بالشخصية الاعتمادية وهو ما حصل فعلا في مسار الرواية، ويا ليت اطالت الكاتبة بتوصيف الحالات المرضية لشخصيات الرواية خاصة حالة طفليها واختها بنفس طريقة السرد لكانت قدمت معروفا للكثيرين والكثيرات ممن يحتاجون إلى الاطلاع على هذه المعلومات بطريقة مبسطة بعيدة عن التعابير والمصطلحات العلمية.

وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن الرواية كانت تستوعب كما إضافيا من الوصف والسرد في الكثير من المواقف، لكنها اعتمدت الوصف المختصر، كما أن دار النشر كانت ملزمة بالاهتمام أكثر من ناحية التحرير والتدقيق لاخراج العمل بأقل كمية من الأخطاء التي كان من الممكن تلافيها لزيادة عناصر قوة الرواية بشكل عام.

الكاتبة ميرهان خليل:
ليسانس آداب من جامعة عين شمس.
دبلومة في الصحة النفسية من جامعة عين شمس.
كورس نظرية الاختيار من مؤسسة ليا جلاسر.
صدر لها رواية كلهن انا تناولت فيها صراعها مع مرض السرطان طيلة عقد كامل.
رسامة تشكيلية رسمت أغلفة رواياتها والعديد من أغلفة روايات ومجموعات قصصية.

نرشح لك: فادي عاكوم يكتب: وجدان.. عودة الدلع للطرب