كتابات طارق إمام: طلقة واحدة تكفي لصنع عالم بأكمله

دينا شحاتة

“ماكيت متقن لحلم يقظة آمن”.. جاء ذلك على لسان سالم بطل رواية “هدوء القتلة” للكاتب طارق إمام في وصفه للمدينة، والذي أرى كتاباته تمثلها تلك الجملة باختصار مخل. ليست كل الأحلام آمنة فيما يكتبه، بل الأقرب هو جرأة طرح أسئلة شائكة ربما تنتج فيما بعد حلم يقظة آمن إن التزمنا الصدق في إجاباتها.

تنبعث الأسئلة من التجريب المستمر في السرد، تلك لعبته الآسرة، ماذا لو؟.. ماذا لو تكلمت الجميلة النائمة في رواية طعم النوم؟ ماذا لو امتلك سالم يدين تعمل إحداهما بالقتل والأخرى تكتب الشعر؟ كما جاء في روايته “هدوء القتلة”، ماذا لو تحول أصبع أوريجا لمسدس حقيقي يقتل وظلت ملامح نود صانعة الأفلام حبيسة عدسة كاميرا ترى فيها بديلا عنها؟ كما في روايته الأخيرة “ماكيت القاهرة”. اللافت للنظر أن غرائبية شخصيات روايات طارق إمام تجعلها أكثر اتساقا مع الواقع.


– انتبه هذا مثير للدهشة

تأتي الإثارة من دمج الواقعي بالمتخيل باعتباره حقيقة لا شك فيها ولا مجال لدحضها. كتابته – تشبه القتل الاحترافي- طلقة واحدة، افتتاحية مذهلة، تكفي لصنع عالم بأكمله.

“تبدو القاهرة لمن لا يعرفها مدينة شديدة الضخامة، غير أن القتلة فقط- وهم حالمون بالضرورة- يدركون أن ذلك غير صحيح”.

تلك افتتاحية روايته “هدوء القتلة” الصادرة عن دار العين للنشر والحاصلة على جائزة ساويرس 2008، هذه الافتتاحية تعلن عن الرواية بأقل من جملتين، مدينة يشكك في تعريفها وقتلة حالمون.

أما عن افتتاحية قصة حكاية “المرأة ذات العين الواحدة” في مجموعته القصصية “مدينة الحوائط اللانهائية” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية فكانت:
“من أي مكان في مدينة الحوائط، كان يمكنك قديما أن تشاهد جبل الكحل الضخم داكن الزرقة، منتصبا بشموخ عند تخومها. في سفح الجبل كانت تجلس، ذات يوم بعيد، تلك المرأة الحكيمة، التي لا تملك سوى عين واحدة في منتصف وجهها، عين واسعة جدا ومكحولة على الدوام، تتحرك فيها ثلاث حدقات”.

لا يراوغ طارق إمام، يؤمن بواقعية عالمه، يصدقه، فيتقبل القارئ ما يكتبه ويغوص داخله عوالمه التي على قدر المتخيل فيها تكمن الأسئلة الواقعية بقسوتها.

أما في رائعته “ماكيت القاهرة” المرشحة ضمن روايات القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، فجاءت افتتاحيتها –كما اعتاد- مذهلة:

“يتذكر أوريجا أنه كان طفلا حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعا إلى جبهته، متخيلا أنه مسدس، وأطلق دويا من فمه: بوم”.

الحقيقة هنا هو وجود طفل قاتل وأب قتيل، والمتخيل هو أصبع كالمسدس، الحدث – بصفتي قارئة للراوية- أصدقه تماما بغير تأويلات كبرى، بل أغرق في لعبة التجريب وأنشغل بما تحدثه ثنائية السرد بين الواقع والمتخيل والمجاز والحرفي في اللغة.

وبنظرة أكثر شمولية لأعمال طارق إمام نرى انشغاله القوي بمشروع أدبي ذو ملامح واضحة لا تقع في فخ التكرار وإنما في تعميق فكرة تؤرقه ربما، فكرة الفن واللغة، إعادة تعريف الواقع بغرائبية تظهر تناقضه من خلال طرح أسئلة فلسفية بالغة الأهمية تحمل من الشك أكثر مما تحمل من اليقين.

وكما جاء على لسان منسي عجرم في روايته “ماكيت القاهرة”: “الأمكنة تخلق قاطنيها إن نشأت نسخة جديدة من بيت ستنشأ نسخة جديدة من ساكن”

يمكن القول أن كتابات طارق إمام تخلق قراءها، إن صدرت كتابة جديدة من رواية ستنشئ قارئ جديد يرى بعين مختلفة.