ديموقراطية الشهرة: الفصل الثامن عشر من كتاب لوغاريتمات الشهرة

عمرو منير دهب

ديموقراطية الشهرة متحققة ابتداءً باعتبار أنه لا صكّ للشهرة يمرّ إلا بعد أن يُمهر بتوقيع الجماهير حبّاً وكرامة، سواء أكانت الجماهير هي التي تبادر بصناعة نجمها “الشعبي” أو تصادق على نجم تدفع به مؤسسات رسمية أو نخبوية على أي صعيد.

وقد رأينا في كتاب “تواضعوا معشر الكتّاب” تحت عنوان “بين صياغة الوجدان وصياغة الوجود” أن “بيان تــَحـَـقــُّـق الشهرة يوقــِّـع عليه في النهاية المتلقي، وفقط المتلقي، متجاوزاً بذلك جهود المبدع ومن قبل أحقية إبداعه من الوجهة الفنية البحتة بالاحتفاء. وربما يمنّ المتلقـي على المبدع بالتوقيع على بيان شهرته مبكّراً، فلا يعني ذلك سوى أن الجمهور قرّر أن يختصر طريق المجد الطويل والملتوي على مبدع بعينه لسبب واضح أو آخر خفيّ دون أن تكون في ذلك أية دلالة على أن المبدع قد فرض شهرته على الجمهور مع سبق إصراره واستبصاره”.

نرشح لك: سقراط والشهرة: الفصل التاسع من كتاب لوغاريتمات الشهرة

ومواصلة للوقوف على دور الجماهير الفريد في هذا السياق رأينا أن “ما يؤكد حقيقة انفراد الجمهور بالتوقيع على بيان شهرة المبدع أن ذلك الجمهور قد يقرّر دون أدنى سبب وجيه في أنظار النـُـقــّـاد أن يدير ظهره إلى مبدع استوفي سائر الشروط الفنية للإبداع الأصيل في ظاهرة لم يجد المهتـمّـون بالتمثيل فيما رأينا تعريفاً لها أفضل من “عدم القبول”، وعدم القبول المشار إليه هو عدم قبول الجمهور لا غير. ومقابلُ تلك الظاهرة هو “القبول” الذي يصرفه الجمهور “شيكاً على بياض” لمبدع قد لا يستحق تلك الصفة سوى في الاتجاه المعاكس للشروط الفنية للإبداع وإن كان أصيلاً، بمعنى أن أحداً لم يسبقه إلى التهافت على شاكلة فريدة”.

وانتهينا إلى حيث رأينا أن دور الجماهير يتعدّى دور النجوم من المشاهير أنفسهم بالنظر إلى المراد من “الصياغة”: “إذا كان فضل المبدع على المتلقي أن الأول يصوغ وجدان الأخير كما في القول المشهور عن أثر الإبداع على الناس، فإن فضل المتلقي أنه من يوقــِّـع على كل بيان للشهرة في حق المبدع ليحشره فيما يشاء من طبقات المشهورين رفعة أو ضعة. أليس في ذلك ضرب آخر من الصياغة يتعدّى الوجدان إلى الوجود؟”.

ذلك من وجهة نظر الجماهير المتلقية لإبداع الطامحين إلى الشهرة، أما من وجهة نظر الطامحين إلى الشهرة أنفسهم فإن الأمر إلى وقت قريب كان من الصعوبة أن يوصف بكونه ديموقراطياً، فالشهرة كانت إنجازاً نخبوياً إلى حد بعيد، ولا يعني ذلك أنه لم يكن بإمكان الناس من عامة الجماهير ولوج عوالم النجومية قدر ما يعني أن تلك العوالم الساحرة كانت مفاتيحها بأيدي النخبة من أرباب السلطة أو المال أو الطبقة الاجتماعية المرموقة على سبيل المثال.

ما الذي تغيّر في عالمنا اليوم إذن؟ ما تغيّر أن قطاعات عريضة من الطامحين إلى الشهرة من العامة أصبح بإمكانها أن تدفع ببضاعتها التي ترنو إلى أن تكون مشهورة عبرها إلى الجماهير (التي هي جزء “عضوي” منها) دون رقيب أو وسيط فتحقق حلمها دون أن تكون مضطرة إلى تقديم قرابين الولاء والطاعة لأية نخبة سلطوية أو مالية أو اجتماعية على سبيل المثال كما كان الحال من قبل.

والأمر كذلك، هل أصبحت عوالم الشهرة ديموقراطية تماماً؟ الإجابة المباشرة: لا، وذلك مع توضيحين: الأول عام، مفاده أنه لا ديموقراطية مطلقة على أي صعيد في أي زمان ومكان، والثاني خاص بهذا السياق تحديداً مفاده أن النخب القديمة لا تزال تمسك بكثير من مفاتيح عوالم الشهرة، هذا إضافة إلى أن الحال يبدو كما لو أن نخباً جديدة تتشكّل مع كل عهد جديد بما يدفع إلى القول بأن الديموقراطية نفسها تفرز نخبها الخاصة سواء على نطاق الشهرة أو في السياسة أو على أي صعيد ذي صلة.

كل ديموقراطية تفرز إذن أنماطها الخاصة من الديكتاتورية التي تنطلي على المجتمع الديموقراطي بطريقة أو بأخرى، وتلك الأنماط من الديكتاتورية تعني أن سلطة ما تظل مسيطرة على مجريات الأمور بحيث لا يمكن القول بأن مفهوم السيطرة يندثر في أي نطاق ديمقراطي ليتساوى الجميع أمام الفرص على كل صعيد، ففضل الديموقراطية الأبرز يكاد ينحصر في أن كل فرد تصبح لديه الفرصة ليغدو ضمن الفئة المسيطرة في إطار اللعبة الديموقراطية، وهذه ليست هينة على كل حال.

عوالم الشهرة ليست استثناءً، فديموقراطية الشهرة التي أتاحتها بصورة مضاعفة وسائلُ الاتصال والتواصل الحديثة – وانفتاح المجتمعات فكرياً واجتماعياً بصورة موازية – لا تعني أن الفرص أصبحت متساوية أمام جميع الطامحين إلى الشهرة بقدر ما تعني أنه بات بإمكان كل فرد أن يشارك في صراع الشهرة ليغدو في حال انتصاره في موقع ما ضمن الفئة المسيطرة على عوالم الشهرة في إطار القواعد الجد…