سلفادور دالي والشهرة: الفصل الثاني عشر من كتاب لوغاريتمات الشهرة

عمرو منير دهب

في كتاب “حرب الأجناس الأدبية”، وكمدخل للنظر في الشهرة لدى بعض الأدباء من محترفي الأجناس الأدبية الأقل حظوة بمعايير هذا الزمان، عرضنا لجانب من تجربة سلفادور دالي كما أوردها في كتاب “أنا والسوريالية” الصادر في يوليو 2010 ضمن سلسلة “كتاب دبي الثقافية” عن ترجمة أشرف أبو اليزيد وتقديم أندريه بارنيود. يقول دالي: “كنت أحلم بالمجد لا بالحب، وعرفت أن طريق النجاح يمر بباريس. لكن في عام 1927 كانت باريس بعيدة عن فيجويراس، بل بعيدة جداً، وغامضة وكبيرة. لقد وضعت رحالي هناك ذات صباح مع شقيقتي وعمتي لأحكم على المسافة والحجم تماماً كما يقوم الملاكم بين الجولات بدراسة خصمه. اكتشفت أولاً فرساي (وما زلت أحب الأسكوريال) وكذلك متحف جريفن المبتذل لأعمال الشمع. زادت ثقتي بنفسي يومياً، لكن لم يتم استكمال أي شيء جوهري. كنت بحاجة إلى معانقة ذلك الباريسي الوحيد المهم في نظري: بابلو بيكاسو”.

وكما رأينا في السياق نفسه، فإن دالي واصل في موضع لاحق من الكتاب وهو يعرض لرحلته إلى المجد: “وتطلعت عيناي بأمل وحسد إلى ما بعد المحيط، إلى شواطئ العسل في الكعكة الأمريكية. ومثل أي بطل رياضي مضيت في التدريب لهذه القفزة الواسعة. كانت أمريكا هي البلد الأول خارج موطني قطالونيا التي تعترف بي. منذ عام 1927 كانت لوحتي سلة الخبز جزءاً من المجموعة الأمريكية، لذلك فلدي نصف رغيف في مستودع طعام العم سام. لكن العبور إلى هذه البلاد كان الأطول بالنسبة لي وعليّ ألا أتخذ الخطوة دون زاد، الأمر الأساسي هو أن يمهد المرء الطريق أمامه مقدماً”. لا نزال مع دالي ورحلته متطلعاً إلى المجد لا الحب: “كان لقائي مع ألفريد بار مدير متحف نيويورك للفن الحديث في نويلس هو ما حركني باتجاه التصرف، كان شاباً عصبياً شديد الشحوب لكنه ذو ثقافة تشكيلية، ورادار حقيقي للفن الحديث، يهتم بالتجديد وبكل نوع من الابتكار، وتتوفر له ميزانية تفوق ميزانية المتاحف الفرنسية مجتمعة. ألحّ علي: “تعال إلى الولايات المتحدة وسوف تومض بالنجاح”، وكأنه كان يردد مشاعري”.

نرشح لك: سقراط والشهرة: الفصل التاسع من كتاب لوغاريتمات الشهرة

من يطالع أسطورة الرسام الإسباني ذائع الصيت – دون أن يقرأ من سيرته تفاصيل بدايات مشواره الفني خارج موطنه كما يرِد جزء منها فيما عرضنا له من الاقتطاف – يخال أن سلفادور دالي وُلد وفي فمه ملعقة من الشهرة أو أن الشهرة قُدّمت إليه باكراً على طبق من ذهب. وإذا كان واقعياً أن فرصاً ثمينة للشهرة قد تسنح للبعض كما لو أنها هدية على طبق ذهبي، وأن البعض قد يُولد فيجد فرصاً نادرة للشهرة مهيّأة له في محيطه العائلي، فإن الشهرة لا تتحقق لمجرّد توافر فرصة نادرة من قبيلٍ ما وإنما باقتناص تلك الفرصة النادرة حال سنوحها على النحو الأمثل، ثم تترسخ الشهرة بالعمل الجادّ المتواصل من بعدُ ليس فيما يخص مجال الشهرة فحسب وإنما كذلك فيما يتعلق بالفرصة التي سنحت أول الأمر ومواصلة استغلالها بمزيد من الاستلهام والتطوير، وأرجو أن يجوز التعبير.

الشهرة إذن كما عرضنا من قبل، وكما ستتكرر الإشارة على الأرجح في العديد من المواضع اللاحقة، لا تتحقق بالإجادة في مجال العمل فقط وإنما بإجادة التعامل مع الطرق المفضية إلى الذيوع بصورة موازية، وكل ذلك يتحقق عبر مهارة اقتناص الفرص على كل صعيد واستلهامها لصنع المزيد من الفرص المتوالية التي تضمن رسوخ الشهرة وتحافظ عليها لأطول أمد ممكن.

من الواضح أن الرسام الإسباني العظيم لم يكن بحاجة إلى دروس حول الشهرة. وباستعارة تشبيهه الذي ورد في وصفه لألفريد بار مدير متحف نيويورك للفن الحديث، يبدو أن سلفادور دالي نفسه كان في حوزته “رادار حقيقي” للشهرة، ولم يدفعه إدراكه الفريد لعبقريته الفنية (والتعبير ورد عن أحد النقاد في ضوء تعليقه على سيرة دالي الذاتية) إلى مجرد انتظار هرولة النقاد والإعلام ومتذوقي الفن الحديث نحوه إقراراً بعبقريته الفنية تلك كما يفعل كثير من عباقرة الفن والمتفردين في أي مجال. دالي كان مدركاً بصورة فريدة كذلك لحقيقة أن الشهرة تتطلب سعياً حثيثاً من أجل بلوغها، فلم يستنكف الرجل عن الوقوف بوضوح أما مشاعره التي تزيّن له الوميض بالنجاح في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، ولم يتردد في أن يضع رحاله في باريس بوصفها معبراً لنجاحه المأمول، وواجه بوضوح حاجته – على الصعيدين النفسي والمادي – إلى معانقة بابلو بيكاسو بوصفه الباريسي الوحيد المهم في نظره، وهو أيضاً كان يعرف كيف يدغدغ مشاعر الجماهير من عشاق الفن فيثير حماسة اعتزازها الوطني ليحظى منها بمزيد من الحفاوة على نحو ما فعل مع الجمهور الفرنسي في حفل لاستقباله عرض له في مقام آخر من سيرته الذاتية اطلعت عليه في مقام مستقل قبل سنوات طويلة.

نعود إلى موضع اقتطافنا الأول عن كتاب “حرب الأجناس الأدبية” لنؤكد مجدداً أنه “من الواضح أن الموهبة وحدها لا تصنع الشهرة، بل إن الاجتهاد في صقل الموهبة الأصيلة كذلك لا يضمن تحقّق الشهرة بأي قدر. الشهرة لا تعانق إلا من يغازلها من المبدعين، أو على الأقل يستجيب بإذعان لإشارات المغازلة التي تبادر بها، إذا جاز أن الشهرة تبادر نفراً من المبدعين بنداء من قبيل: هيت لك”.

بيد أن الشهرة لا تبدو على كل حال تغازل أيّاً من المبدعين إلى حد مناداته: هيت لك، لكنها تستوعب إيماءات المغازلة التي يبادرون بها وتستجيب لبعضها. وهي لا تهب نفسها لأيٍّ منهم إلا إذا أقرّ بالتواضع والإذعان الكامل أمامها، فتأذن له بعد أن يستوفي شروطها كاملة بقسط من المجد يخوّله أن يزهو أمام الملأ كما ظلّ يحلم، وسلفادور دالي مثال رائع لمبدع فريد دقيق الإدراك لتفاصيل عبقريته الفنية (إلى حد يغري باتهامه بتعاظم الأنا) منح الشهرة دون مواربة كلَّ ما تتطلّبه من التواضع والإذعان لشروطها القهرية فمنحته ما يستحق من بريقها العظيم.