مايكل أنجلو والشهرة: الفصل الحادي عشر من كتاب لوغاريتمات الشهرة  

   عمرو منير دهب 
 
أشرنا إلى مايكل أنجلو في “جينات ثورية” في مقال مستقل كان منطقياً بطبيعة موضوع الكتاب أن يحمل عنوان “مايكل أنجلو والثورة”، ومما ورد في ذلك المقام الثوري أنه: “بحسب كَهْل إيطالي ودود يبدو مبتهجاً خلال إيصاله عملاء المصنع الذي يعمل به كسائق بمرتبة مرشد سياحي يجيد الإنجليزية إلى حد مُرضٍ ويستوعب تاريخ بلاده بعمق، بحسب ذلك السائق الودود فإن ساحة مايكل أنجلو في فلورنسا أقامها أهل المدينة ليس تخليداً لابنهم بوصفه فناناً عبقرياً فحسب وإنما بصورة موازية وأساسية لدوره البارز في دعم قضية الجمهورية عام 1527، حين طرد مواطنو فلورنسا الأصليين عائلة ميديشي الحاكمة ووضعوا بدلاً منها حكومة جمهورية، وهذا ما تشير إليه المراجع التاريخية بتفصيل يزكِّي نزعة الفنان العبقري الثورية ويدعم فرضية تخليد أهل فلورنسا له على خلفيته الثورية وليس لعبقريته الفنية مجردة من النزعة الثورية المبرهنة بمواقف تاريخية من الطراز الخالد”.

يبرز النابهون في كل مجال بإبداعاتهم التي تسترعي الانتباه بشكل فريد لكل منها، وتتوالى من ثمّ أفواج المعجبين من كل قبيل بقدر واضح من العفوية ابتداءً، ثم لا يلبث أن يعتري تلك العفوية التغييرُ بقدر أو آخر بالنسبة لكل طائفة. وأوضح أشكال التغيير الذي يؤثر على عفوية الإعجاب تفرضه استجابات المبدع نفسه لما حوله من الأحداث وتجاه مَن حوله من الناس، فالمجتمعات لا تترك مبدعاً مشهوراً وشأنه فيما يتعلق بمواقفه تجاه هذه القضية وتلك، سواءٌ بدافع الفضول (البريء؟) أو التحريض لاتخاذ موقف بعينه. ولن يسلم المبدع المشهور في كل الأحوال، فالانحياز إلى موقف ما يعني ضمناً الانحياز ضد الموقف المقابل، وسيكون لدى طرفَي أي صراع على السواء مكامن قوة وسلطة بحيث إذا كسب المبدع المشهور جانباً من تلك القوة بانحيازه إلى طرف فإنه سيخسر تلقائياً ما لدى الطرف المقابل من القوة على اختلاف طبيعتها وتجلياتها.

امتحان الاختيار بين موقفين أو أكثر لا يتعرض له المبدع فقط بعد أن تغمره الشهرة، ولكن حدّته تتعاظم بعد الشهرة. والأغلب أن المبدع تقذف به إلى سماوات الشهرة إحدى القوى المؤثرة في الحياة من حوله، فتكون بذلك القوة التي احتضنته وعليه أن يدين لها بالولاء. ولكن مخاتلات الشهرة والمشهورين عظيمة، فقد يقرر المشهور أن ينقلب على القوة التي صنعته، إمّا بدافع مبدئي لتغيّر قد اعترى أفكاره أو لأهداف ذرائعية صرفة تدفع مشهوراً ميكافيليّاً إلى الميل إلى الكفة الأرجح باستمرار في صراع النفوذ.

المخاتلة بالمواقف البينيّة مسألة واردة بقوة لدى المبدعين ممن يعنيهم مجال إبداعهم وشهرتهم في المقام الأول بعيداً عن الانحيازات التي تمليها المواقف المتباينة في الفكر والسياسة والدين والأحداث الاجتماعية وغير ذلك. ولأن مخاتلات المشهورين – بمحاولات إمساك عصا المواقف من الوسط – لا تنطلي على أيٍّ من الفرق المتصارعة في أي مكان وزمان، فإن إعلان المشهور عن موقفه على أي صعيد يحتاج إلى مهارة شديدة عندما لا يكون ذلك الموقف حاسماً لأحد الطرفين أو إذا كان المشهور يريد إخفاء انحيازه لطرف ما خشية إغضاب سائر الأطراف.

بحسب ما أشرنا إليه بداية هذا الحديث، فإن مايكل أنجلو لم يكن فيما يبدو من تلك القصة شخصيةً تحب أن تخفي انحيازها، ولعل الأدق أنه جاهر بانحيازه الثوري تحديداً تضامناً مع جماهير فلورنسا ضد عائلة ميديشي الحاكمة في بواكير الربع الثاني من القرن السادس عشر، حتى إذا لم يكن الرجل صاحب شخصية ثورية رافقته باستمرار طوال مسيرته كفنان ومبدع من طراز بالغ الندرة.

مهما يكن، ليس من المنطقي بحال القولُ بأن مايكل أنجلو لم يكن ليحقق شهرته لو لم يكن قد اتخذ موقفاً ثورياً من ذلك الطراز الرفيع تضامناً مع أبناء فلورنسا، فالجمهورية الثورية لم تمتد سوى نحو ثلاث سنوات، لكن الأهم على هذا الصعيد أن فنان إيطاليا العبقري كانت سيرته تملأ الأرجاء قبلها وظلت كذلك بعدها إلى يومنا هذا. وعليه، ربما تمثّل الفضل الوحيد لموقفه الثوري تجاه عائلة ميديشي – من حيث إضفاء بصمة خاصة لسيرته مع المجد – في إطلاق اسمه على ميدان استثنائي في المدينة الإيطالية ذائعة الصيت، وذلك بافتراض صحة الرواية التي تنسب الفضل في تسمية الميدان باسم الفنان الشهير إلى موقف ثوري بعينه دون سواه من المواقف المبدئية والإنجازات الفنية الاستثنائية.

قد يصنع موقف واحد شهرة مبدع ما، وفي المقابل قد يدمّر موقف واحد شهرة مبدع آخر. ولكن مواقف المبدع المشهور بصفة عامة واستجاباته إزاء انفعالات الجماهير على اختلاف أشكالها تضفي على سيرته صبغة مميزة، ومن المبدعين المشهورين من يختار مواقفه بعناية شديدة أمام كل منعطف في الحياة العامة، ومنهم من يترك نفسه على سجيتها – بقدر أو بآخر – على تقلّب أحوال الزمان من حوله، وباستثناء ما أشرنا إليه من المواقف التي قد تعمّق شهرة أحد المبدعين بوضوح والأخرى التي قد تدمّر شهرة مبدع آخر تماماً، فإن ما يؤثّر في عمق وامتداد شهرة المبدع من النادر أن ينفرد به سبب أو عامل واحد في أيٍّ من العصور أو الأماكن وبالنسبة لأيٍّ من المبدعين.

تشير ويكيبيديا العربية إلى أن مايكل أنجلو ” تعرّف… خلال مسيرة عمله على مجموعة من الأشخاص المثقفين يتمتعون بنفوذ اجتماعي كبير. رعاته كانوا دائماً من رجال الأعمال فاحشي الثراء أو الرجال ذوي المكانة الاجتماعية القوية بالإضافة لأعضاء الكنيسة وزعمائها، من ضمنهم البابا يوليوس الثاني، كليمنت السابع وبولس الثالث. سعى مايكل أنجلو دائماً ليكون مقبولاً من رعاته لأنه كان يعلم بأنهم الوحيدون القادرون على جعل أعماله حقيقة”. بغض النظر عن دقة تلك المعلومة، فإنها تشير إلى عامل مهم، ليس فقط في تعميق شهرة الفنان العظيم بعد أن تتحقق وإنما في صنعها ابتداءً، فالأشخاص ذوو النفوذ هم القادرون ليس فقط على دعم الموهبة وإتاحة السبل لتطويرها بما يلزم من المال، وإنما كذلك على إتاحة الفرص النادرة لتتجلى من خلالها عبقرية الفن المنجز. وفي حالة مايكل أنجلو فإن إبداعاته الاستثنائية قد احتلت أرفع الأماكن بروزاً وقداسة في إيطاليا لتطلّ من خلالها على العالم أجمع وتواصل إطلالتها الفريدة عبر العصور، ولم يكن ذلك ممكناً بحال لولا ذلك الحرص المشار إليه على القبول من قبل الرعاة النافذين على اختلاف طبائع ومواقع نفوذهم.

في ويكيبيديا الإنجليزية عن الفنان العظيم: “عندما كان صبيًا صغيراً، تم إرسال مايكل أنجلو إلى فلورنسا لدراسة القواعد grammar تحت إشراف عالم الإنسانيات فرانشيسكو دا أوربينو. على أية حال، لم يُظهر مايكل أنجلو اهتماماً بدراسته المنتظمة، مفضلاً نسخ اللوحات من الكنائس والبحث عن رفقة الرسامين الآخرين. كانت مدينة فلورنسا في ذلك الوقت أعظم مركز للفنون والتعلّم في إيطاليا. كانت رعاية الفن تتم من قبل مجلس المدينة  Signoriaوالنقابات التجارية والرعاة الأثرياء مثل عائلة ميديتشي The Medici وشركائهم المصرفيين”. بتجاوز اللمحة غير المستغربة من التمرّد في سير الشخصيات العظيمة، خاصة الفنانين الاستثنائيين، فإن الإشارة بتحديد إلى رعاة الفن تؤكد أن فناناً كائناً من كان ليس بإمكانه أن يجد طريقه إلى الذيوع دون أن يكون مقنعاً لأولئك الرعاة بقدر عميق.

لا يبدو في قصة مايكل أنجلو مع الشهرة إذن ما هو غير اعتيادي، وذلك مع ضرورة تذكّر أمرين: الأول، أن كل قصة شهرة لفنان استثنائي لا بد أن تحيط بها المفارقات الاستثنائية بصفة عامة وليس تحديداً بالقياس إلى قصص غيره من المبدعين الاستثنائيين. الأمر الثاني، أن الفنان الطامح إلى الشهرة يجب عليه أن يعرف كيف يتعامل مع مقتضياتها على اختلافها، وقد بدا مايكل أنجلو بارعاً في ذلك، فبرغم التقلّبات الكثيرة التي اعترت سيرة إيطاليا في تلك الحقبة الصاخبة التي عاشها وأثّرت فيه بكل تداعياتها، ظلّ هو منصرفاً إلى فنّه بجلاء، ليس من الناحية “الفنيّة” الصرفة فحسب وإنما كذلك بالتركيز على ما من شأنه أن يعمل على إبراز إبداعه والصعود به إلى ذرى المجد وذلك بانتباهه إلى أهمية متانة صلاته بالرعاة النافذين على اختلاف مواقعهم ومرجعياتهم.