الشهرة ووسائل التواصل الاجتماعي: الفصل العاشر من كتاب لوغاريتمات الشهرة

عمرو منير دهب

كم كان سيكون عدد المتابعين لسقراط أو أفلاطون أو أرسطو على أيٍّ من وسائل التواصل الاجتماعي لو أنها كانت متاحة في اليونان القديمة قبل الميلاد؟

السؤال “افتراضي” جدلي بامتياز، ولكن لا مانع من طرحه، بل لا مناص من طرحه على صعيد محاولة فك طلاسم شفرة الشهرة سواءٌ بالنسبة لمقام نخبوي بالغ التعقيد كالفلسفة الإغريقية – على سبيل المثال – أو فيما يتعلق بفنون الطرب والسينما وكرة القدم، وليس في هذه المقارنة تهوين مباشر أو من طرف خفي للجهد اللازم لتحقيق النجومية في المجالات الأخيرة، فالأرجح أن أسرار النجومية وسلوك النجوم يبدو متماثلاً بصرف النظر عن مجال العمل لكل نجم أو طامح للنجومية، وذلك بخلاف ما نتجاسر على مواجهته بشأن حقيقة تماثل طبائع البشر باختلاف مرجعياتهم على كل صعيد.

نرشح لك: سقراط والشهرة: الفصل التاسع من كتاب لوغاريتمات الشهرة

 

السؤال ليس بدافع تتبع مباراة بين سلوك الجماهير عبر زمانين متباعدين لأكثر من ألفي عام بقدر ما هو متعلق بمباراة ربما يمكن الوقوف على نتائجها بوضوح خلال الحقبة الزمنية نفسها، مباراة بين المشهورين أنفسهم رجوعاً إلى طبيعة مجال كل منهم، وقد أقحمنا الفلاسفة اليونانيين العظام في هذه المباراة “الافتراضية” استغلالاً للهالة العظيمة التي تحيط بمجدهم الذي ظلّ عظيم السطوة على مدى القرون.

وقد رأينا حين نظرنا إلى سيرة سقراط – تحديداً – مع الشهرة أن الفيلسوف العظيم “كان محظيّاً بين تلاميذه من عشاق الفلسفة، ولكن ربما سبقه إلى الحظوة الجماهيرية في ذلك الزمان من الشعراء والرسامين والنحاتين وممثلي التراجيديا مَن لم نقف على شهرتهم التي ربما طمسها الزمان، ذلك فضلاً عن أبطال الرياضات التي كانت شائعة حينها مما لم يسعفهم حظ الشهرة بأن تترامى أخبار بطولاتهم إلى مسامعنا”. وعليه، فإن على فلاسفة اليوم ألا ينزعجوا كثيراً لمطالعة حظهم المتدني جداً من الشهرة قياساً إلى أباطرتها في مجالات كالرياضة والطرب والفنون المختلفة، فذاكرة التاريخ العميقة تبدو كما لو كانت أكثر استعداداً لاستيعاب أصحاب الإنجازات الفكرية الدسمة، وذلك مع التذكير مجدداً بافتراض صحة ما ذهبنا إليه من أنه كان ثمة بالفعل في أثينا القديمة نجوم في التمثيل والفنون والرياضة تجاوزها التاريخ لصالح سقراط ورفاقه من الفلاسفة والمؤرخين العظام.

مقارنة حسابات المشاهير من المفكرين والكتّاب على أيٍّ من وسائل التواصل الاجتماعي بحسابات مشاهير الرياضة والغناء والتمثيل تحسم نتائج مباريات الشهرة للفئة الأخيرة بضربات قاضية متتالية مهما تتكرر المباريات، والواقع أن أنصار الفئة الأخيرة غير مهتمين أصلاً بالمقارنة، والمباريات التي تنتهي بضربات قاضية إنما هي محض خيال لمن يجرؤ على المقارنة غير العادلة بين كفتي “ميزان” الشهرة الراجحة إحداهما بوضوح لأصحاب الإنجازات من طراز “ما خف حمله وغلا ثمنه” مقابل إنجازات المفكرين والكتّاب مما “ثقل حمله وزهد ثمنه”، كل ذلك بموازين الشهرة وحساباتها “الجارية” بعيداً عن الخوض فيما يمكن أن يستقر من المجد في ذاكرة التاريخ العميقة على المدى البعيد مما أسعف بمثله الزمان نفراً من فلاسفة اليونان العظام ومن حذا حذوهم لقرون طويلة تلت على امتداد أوروبا وسائر أرجاء العالم.

مشاهير الإنترنت Internet Celebrities مصطلح يشير إلى أولئك الذين جنوا شهرتهم من الظهور على الإنترنت، وبحسب ويكيبيديا الإنجليزية فإن مشاهير الإنترنت يُعرفون أيضاً بالمؤثّرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي Social Media Influencers أو الشخصيات على وسائل التواصل الاجتماعي Social Media Personalities أو الشخصيات على الإنترنت Internet Personalities أو – ببساطة – المؤثرين Influencers.

وبتتبع تعريف ويكيبيديا الإنجليزية فإن المشهور على الإنترنت هو “أحد المشاهير الذين اكتسبوا أو طوّروا شهرتهم fame/notability عبر الإنترنت. ساعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الناس على زيادة وصولهم إلى الجمهور العالمي. اليوم، يتواجد المؤثرون المشهورون popular influencers على منصات الإنترنت الشهيرة مثل تويتش وإنستغرام ويوتيوب وسناب شات وتويتر وفيسبوك… غالباً ما يقوم مشاهير الإنترنت بدور الموجّهين الذين يروجون لنمط حياة أو سلوك معين lifestyle gurus . في هذا الصدد، فإنهم مؤثرون مهمّون للغاية فيما يتعلق بترويج الموضات/الاتجاهات trends في مجالات تشمل الأزياء والجمال والطبخ والتكنولوجيا وألعاب الفيديو والرياضات الإلكترونية والسياسة والموسيقى والرياضة والترفيه. قد يتم توظيف مشاهير الإنترنت من قبل الشركات للتسويق بواسطة (أسلوب تسويق) المؤثر المشهور influencer marketing بحيث يعلن أولئك المؤثرون عن المنتجات لمعجبيهم ومتابعيهم عبر منصاتهم الإلكترونية”.

شملت إذن مجالات genres تأثير مشاهير الإنترنت كما نرى مع ويكيبيديا الإنجليزية معظم ما يخطر على البال، بما في ذلك السياسة، وباستثناء واضح للمواد الفكرية الدسمة من أي قبيل. وعليه، فإن أيادي الإنترنت – وما تمخضت عنه تلك الشبكة من وسائل تواصل مختلفة الأشكال والألوان – لا يمكن جحودها بالنسبة للطامحين إلى الشهرة على صعد الأزياء والجمال والرياضة وألعاب الفيديو والطبخ والترفيه وما إلى ذلك بغض البصر عن الأوصاف التي يمكن أن تطلق على هذه المجالات من حيث الأهمية، فمن الواضح أن لكلٍّ مرجعياته التي يبني عليها تقدير الأهمية، والمعنيون بالترفيه والرياضة والأزياء والطبخ والموسيقى والألعاب الإلكترونية لا يقلقهم في الغالب أن توصف مناحي اهتماماتهم تلك بكونها قليلة الدسم من الناحية الفكرية، بل الأرجح أن القيمة الفكرية كاملة – أو مضاعفة – الدسم مما يشكّل بالنسبة لهم عائقاً للهضم ومن قبلُ الاستساغة.

أفاد أرباب المواد الفكرية الدسمة من المفكرين والكتّاب من وسائل التواصل الاجتماعي بدرجة أو بأخرى، لكن تلك الوسائل لم تقدّم لهم اختراقاً – نوعياً أو كميّاً – على صعيد الشهرة بقدر ذي بال، سواءٌ بالقياس إلى محيط الجماهير العريضة أو حتى في محيط مريديهم الضيّق.

على الرغم من بعض الارتباط لوسائل التواصل الاجتماعي بوسائل الإعلام التقليدية كالصحف والمجلات والتلفزيون، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تبدو أكثر جنوحاً للاستقلال والتحرر الكامل، حتى إنه في كثير من الأحيان تبدو وسائل الإعلام التقليدية هي التي تلهث وراء وسائل التواصل الاجتماعي سعياً لاجتذاب المتابعين النافرين عن العراقة نحو الحداثة وتأكيداً من جانبها على أنها قادرة على مواكبة الحداثة بدورها.

وهكذا، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تبدو كما لو أنها كسرت كل إطار تقليدي على صعيد الانتشار والتأثير، وإن تكن لا تزال قليلة الحيلة فيما يتعلق بتناول المواد الفكرية كاملة الدسم وما يستتبع ذلك من إهداء الشهرة لأرباب تلك المواد على أطباق من ذهب أسوة بما أسدته للنجوم من أرباب الحِميات الفكرية في كل سماء.

للتواصل مع كاتب المقال| [email protected]

حفل توزيع جوائز الدورة الرابعة من مسابقة إعلام دوت كوم