نزار بدر ..عندما ينطق الحجر
محمد إسماعيل
انتبه من فضلك … في اللاذقية … الأحجار قد تنطق!
عندما تريد أن تؤكد عزمك على فعل أو عدم فعل شيء ما وأن يفهم محدّثك أنه لا يوجد على هذا الكوكب ما يثنيك عن عزمك الشديد، فيوفر جهده وإلحاحه، قل ما شئت من الكنايات الشائعة عن المشمش والنجوم في عز الظهر وحلمة الأذن وهبوط السماء على الأرض اضطراريا لكن أرجوك لا تقترب من عبارة “لو الحجر نطق”، فهي لن تخدم قضيتك. نعم هناك من علّم الحجارة النطق والفصاحة والبيان وإذا كان مولانا الشيخ سيد مكاوي في اغنيته جعل الأرض تتكلم عربي، فإن النحات المخضرم نزار علي بدر ابن اللاذقية جعل الحجارة تتكلم سوري بل علمها لغة الإنسانية ولغة الزهد ولغة البهجة ولغة الأمومة ولغة الأبوة ولغة الألم ولغة الأمل ولغة المحبة ولغة السلام في أرض تطحنها الحرب منذ 2011 بين لغات أخرى كثيرة تنطق بها أعماله التشكيلية في مجملها وأخص بالذكر أعماله التي تندرج تحت فئة “الرسم بالحصى”.
صف الحصى
يتحدث الفنان بدر عن أكثر من 8000 تكوين تشكيلي موثق بالصور قائلا: “نطلق على هذا الفن اسم صف الحصى حسب لونها وحجمها بحيث نعتمد كليا على الألوان الطبيعية ومنشأ هذه الصخور هو حجارة جبل صافون أو الجبل الأقرع وهذه الصخور معروفة بأشكالها وملمسها الناعم ويعتبر هذا النوع من الفنون جديدا على المجتمع المحلي وهو غير مكلف اجمالا ويحتاج مخيلة واسعة وقدرة على تنفيذ الأشكال المطلوبة بسرعة وبداهة دون استخدام أي آلة مساعدة”. وبالرغم من وطيس الأزمة السورية الطاحنة وبالرغم من نزوح عشرات الآلاف من ديارهم، وبالرغم من هول ما يحدث في بعض المناطق كما حدث مؤخرا في تدمر، لم يفكر نزار على بدر في الهجرة أو مغادرة البلاد وعن ذلك يقول عبر صفحته على موقع فيس بوك: ” حفنة من ترابك سورية تساوي كنوز الدُني”، ويقول ” اسجد واقبل ترابك المقدس. امي————– “، ويقضي معظم الوقت في متحفه الخاص جليسه الخيال وزاده التأمل والصمت وهمه الأكبر أعمال تشكيلية جديدة تنجح في تحقيق رسالته في الحياة وحلمه في عالم أكثر إنسانية وغطاءه الستر ورداؤه رداء الإنسانية على حد تعبيره ويروي عطشه بحب المعجبين بإبداعه وهم كثيرون، كما أنه لا يكف عن المشاركة في ورش العمل التي تنال اهتمام رواد الفعاليات الفنية المختلفة في اللاذقية ومنها مهرجان “ارسم حلمك” في أبريل الماضي، فورشة الرسم بالحصى التي أشرف عليها الفنان نالت حظوة كبيرة لدى الأطفال الذين تعرفوا على فن جديد عليهم نسبيا ونفذوا بعض الأعمال التشكيلية بأيديهم بمساعدته.
كلمة السر “أوغاريت”
يفخر النحات نزار بدر بانتمائه لحضارة أوغاريت وولعه بها. يُذْكر أن الجبل الأقرع يقع بين محافظة اللاذقية و لواء الإسكندرونة السوري شمال غرب سوريا ويطلق عليه اسم جبل صافون في الملاحم التي يرجع تاريخها إلى حضارة أوغاريت القديمة. بل يذهب لأبعد من ذلك فيعتبر نفسه وريث أوغاريت ولا يخفي حزنه أنَّه لم يولد في زمانها ويسمع في داخله صوتا يقول إنَّ لأسلافه الأوغاريتيين أمانة تركوها في جيناته (هي حجارة صافون) وأن دوره حفظ الأمانة، و”إيصالها بصدق وعفوية إلى الأجيال”.
وفي فئة الرسم بالحصى جسّد بدر بعض المشاهد من حضارة أوغاريت وكان لافتا مشهد الصياد الأوغاريتي والمزارع الأوغاريتي البسيط الذي يركب حمارًا، كما يجسد مشاهد تعبر عن المحبة التي فُقدت أثناء الحرب لدرجة أن المتلقي غير المتخصص في الفنون التشكيلية لن تخطئ عيناه مشاهد محاكاة الحبّ بين الجنسين والحب في المجتمع وحب الأم والأب لأطفالهم في مشاهد ذاخرة بالدلالات الإيجابيَّة وبعيدة كل البعد عن كل ما قد يبث طاقة سلبيَّة للمتلقِّي، كما يقول.
أما خلفية الصور التي وثق فيها أعماله فتنحصر في الألوان الأبيض والأزرق والأحمر. فالأبيض، من وجهة نظره يتيح للمتلقِّي التمعُّن أكثر في الألوان الطبيعية للأحجار دون أن تلعب الخلفية أي دور في تكوين العمل التشكيلي، بينما يحاكي الأزرق جمال البحر الذي منحه هذه الحجارة ويجمعها من على شواطئه أما الأحمر فيدخره للموضوعات العصيبة كخلفية تعبر عن الأسى إذا كتب سورية بحجارته أو إذا صفها بجوار بعضها البعض ليكتب كلمة “الشهيد”. يقول بدر في مقابلة أجراها معه بلال سليطين ونشرتها جريدة السفير في يوليو الماضي: “أمضي ساعات في جمعها وبعد استخدامها في تجربة حجارة صافون أحوّلها إلى منحوتات صغيرة وما لا يصلح للنحت منها أعيده إلى البحر حفاظا على البيئة البحرية ولأترك للأجيال اللاحقة استثمارها في أعمال أخرى مستقبلاً”.
النحت التقليدي
لم يقطع نذار بدر علاقته بالنحت التقليدي وهو يرى أنَّ النحت وتجربة صف الأحجار متوازيين لا يلغي أحدهما الآخر وفي 2014 نظم معرضا بعنوان “صرخة حجر” لأعمال النحت التقليدية وعنه يقول: “معرضي هذا هو صرخة ، صرخة حجر لأن الحجر أصبح يصرخ مما يراه الآن . هي صرخة ألم لما يحدث في الوطن من دمار للإنسان والأرض سوية ..شاركت بحوالي ستين عملا نحتيا من أحجار مختلفة كالبازلت والصوان، هي بورتريه حجري تحمل مأساة كل إنسان ، هي الحزن الذي بدا على وجوه كل الناس خلال هذه الفترة المؤلمة التي مررنا بها. نأمل في معرضي القادم أن أقدم وجوها تحمل الفرح “. نذار بدر يرفض بيع أيّ قطعة من أعمالها النحتية التي تعدّ بالمئات لأيّ سبب، وإنَّما يجمعها كمقتنيات نفيسة يعتز بها في متحفه الخاص ويؤكِّد استعداده للتبرع بها للحكومة السورية شريطة عرضها بشكل لائق والحفاظ عليها.
كلمة أخيرة ينبغي أن أختم بها مقالي هذا؛ فقد اعتدت أن أقابل في دول الخليج سوريين مع النظام وآخرون مع المعارضة ولكن هذا الفنان اصطف مع الإنسان وقيم الإنسانية والحضارة والأمل في غد مشرق وكنت قد شرفت بصداقة الفنان السوري الخمسيني على فيس بوك منذ نحو شهر، وأرهقتني مهمة اقناعه بعقد مقابلة صحفية معه دون جدوى، وهذا دأبه مع كل وسائل الإعلام التي تحاول استضافته وقد علمت من صفحته الشخصية على فيس بوك كم أرهق قبلي قناة أوغاريت الساحلية السورية حتى وافق على الظهور عبر شاشتها الأسبوع الماضي حيث حل ضيفا على برنامج “درب النجوم”، ولكن خلصت منه بعد إلحاح بالسطور التالية:
– اعمالي ليست لي انها هدية لكل عاشق لتراب وحجارة سورية.
– انا فقير ولا هدف مادي لي من خلال ابداعاتي.
– من رحم الدمار ولدت حجارة صافون.
– حجارة وطني المعذب تكلمت اوقفوا سفك الدماء
– اعمالي انشرها ليراها الكون… نعم؛ حجارة صافون اكتشاف سوري وبكل فخر.
– اكثر من٨٠٠٠ عمل تشكيلي في خمس سنوات من العمل المضني
– نجحت ولا انتظر جائزة او شكر.
– نجاحي هو انتصار للحق والخير على الباطل والشر.
