عمرو منير دهب يكتب: براعة الترجمة والاقتباس

“لم تجد السينما المصرية في بداياتها أعمالاً كثيرة تقدمها، لأن الفن الروائي لم يكن متطوراً، لذا لجأت إلى أن تنهل من الأفلام والروايات الأجنبية. وبالطبع اختارت أفلاماً لاقت نجاحاً بلغاتها الأخرى. عندما نجحت الفواجع الفرنسية اتجهت السينما المصرية لهذا الكنز، وعندما راجت الأفلام الاستعراضية اتجهت لها السينما المصرية. حتى على مستوى الممثلين، ظهر فالنتينو فظهر عندنا بدر لاما، ظهر فرناندل فظهر عندنا إسماعيل ياسين، ظهر تايرون باور فظهر عندنا أنور وجدي، ظهرت شيرلي تمبل فجاءت فيروز. هناك أفلام مصرية يصعب أن تعرف مصدرها بالضبط، مثل فيلم “الشيطان امرأة” لنيازي مصطفى و”امرأة بلا قيد” لبركات، هل هما مأخوذان عن فيلم “كارمن” أم عن رواية “ميريميه” أم أوبرا “بيزيه”؟ هناك أفلام يتم الاقتباس فيها من عدة مصادر لتكوين خليط واحد”.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: اختراع التقاليد المصرية

هذه كلمات أحمد خالد توفيق في كتابه “اللغز وراء السطور: أحاديث من مطبخ الكتابة” الصادر عن دار الشروق بالقاهرة سنة 2017، وتوفيق في المقالة التي ضمّت هذه الكلمات والمقالة التي قبلها في الكتاب يأخذ عن محمود قاسم من كتابه “الاقتباس (المصادر الأجنبية) في السينما المصرية”، يقول توفيق: “سوف أعرض عليك هنا كتاب محمود قاسم الممتع “الاقتباس في السينما المصرية”، ونسخته التي أملكها صدرت عام 2002 من مكتبة الأسرة، وهي الطبعة الرابعة. منذ البداية يخبرنا المؤلف أن هذا الكتاب سبب له متاعب جمة، وصلت للتهديد في أحيان كثيرة. إن السينما المصرية ليست مصرية تماماً، ومن هنا تبرز أهمية علم السينما المقارنة… ظاهرة الاقتباس Adaptation قد تعني معالجة سينمائية عن رواية، أو الاستيلاء على نصوص كتبها آخرون، وقد تلحق باللفظة اسم البلد المقتبس كأن تقول إن “شمس الزناتي” تمصير لـ”الساموراي السبعة” لكيروساوا أو إن “العظماء السبعة” أمركة لنفس القصة… وحتى يريحك المؤلف في النهاية فإنه يقدم لك فيلموجرافيا من عام 1933 إلى عام 2002 يذكر فيها الفيلم المصري مع أصله، من أول فيلم “أولاد الذوات” ليوسف وهبي عن المسرحية الفرنسية “الذبائح” عام 1933 حتى “الرغبة” لعلي بدرخان عن مسرحية “رغبة تحت شجرة الدردار” لتنيسي ويليامز عام 2002″.

بالعودة إلى نسخة إلكترونية لطبعة أحدث فيما يبدو من كتاب محمود قاسم الذي يشير إليه أحمد خالد توفيق، صادرة عام 2018 عن وكالة الصحافة العربية “ناشرون” بالقاهرة تحت عنوان “الاقتباس: المصادر الأجنبية في السينما المصرية “، فإن قائمة الأفلام المصرية المقتبسة تمتد حتى العام 2017 لتنتهي بفيلم “القرد بيتكلم” لبيتر ميمي نقلاً عن الفيلم الأمريكي “أنت تراني الآن” من إخراج لويس ليترير سنة 2013.

وعلى الرغم من أن أولى كلمات قاسم في مقدمة الكتاب تبدو صادمة: “السينما المصرية ليست مصرية تماماً. باستثناء مجموعة قليلة من أفلامها التي تقترب من الأربعة ألاف وخمسمائة فيلم، سنجد أن أغلب السينما المصرية مستورد من الخارج. إما متأثراً بموجات عالمية تلقى ذيوعاً في مرحلة معينة، أو بالاقتباس المباشر من أفلام أو روايات أدبية أو مسرحيات”، برغم تلك البداية التي قد تبدو حادة للبعض فإن الكتاب يلتزم بقدر واضح وعميق من الموضوعية التي لا تنقص من قيمة أي عمل مقتبَس لمجرد أنه مقتبَس دون النظر في أسلوب الاقتباس و”إعادة تقديم” العمل، هذا من الناحية الفنية. أما من الناحية “الأخلاقية” (آداب المهنة Ethics) فمن الواجب ذكر مصدر الاقتباس بطبيعة الحال، وهو ما عرض له المؤلف ربما بإسهاب في غير هذا الكتاب من المواضع.

تتضح رؤية محمود قاسم المنفتحة لمفهوم الاقتباس في السينما – ليس عن فيلم آخر فقط وإنما حتى عن عمل أدبي – في قوله: “يحمل الفيلم في أغلب الأحيان رؤية مختلفة تماماً عن النص المأخوذ عنه مهما التزم بروح النص الروائي، ويصبح الفيلم مصبوغاً برؤية المخرج مهما كانت درجة إعجابه بالنص، وبالتالي فإنه يغير من شخصيات ومواقف وأحداث وأفكار، يضيف ويحذف، يختصر ويسهب كما يشاء، وهذا من حقه لأنه فنان ومبدع وله رؤيته التي لا بد أن يكشفها في العمل الذي يتناوله”. يواصل قاسم: “يتضح من هذا الأمر أن اختلاف المعالجة أمر وارد. والطريف أن هذا الاختلاف يحدث عند الفنان الواحد في مراحل متباينة من حياته زمانياً ومكانياً، فقد يتناول مخرج إحدى الروايات في فترة من حياته بطريقة ما، ثم يعود ليتناول نفس العمل بصورة مختلفة في فترة أخرى. بدا هذا الأمر واضحاً فيما يسمى بظاهرة إعادة إخراج أفلام قديمة Remake سواء في السينما المصرية أو العالمية. كما إن المخرج نفسه تحت نظامين سياسيين متباينين قد تختلف رؤية وفكرة كل منهما مهما بلغت قدرته التعبيرية”.

بعيداً عن تجليات – وربما تعقيدات – الأبعاد “الأخلاقية” (آداب المهنةEthics ) المتعلقة بالمسألة، فإن الاقتباس يتطلب قدراً كبيراً من البراعة حتى يتمّ بنجاح فتسري الفكرة المقتبسة في المجتمع أو الوسط الذي نقلت إليه بسلاسة.

ما حدث أن سيل الأعمال الفنية السينمائية والدرامية المصرية المقتبسة عن أصول أجنبية – سواء عن أعمال أدبية أو سينمائية أو درامية – لم يتدفق بسلاسة فحسب في الوجدان المصري والعربي بل توغّل في ذلك الوجدان بحيث غدا أحد أعمق مكوّناته التي يُنظر إليها بحبّ وتقدير كبيرين، ولم يكن ذلك ممكناً لو لم تكن عملية الاقتباس تُنجَز بتروٍّ وبراعة بحيث يبدو العمل الفنّي بعد تمصيره/تعريبه كما لو كان مصرياً/عربياً خالصاً.

يشير محمود قاسم في الفصل الأول من الكتاب بعنوان “نحو سينما مقارنة” إلى أن “ظاهرة اقتباس أفلام السينما موجودة في كل أنحاء العالم، حتى في السينما الأمريكية نفسها”، وإن كان ذلك لا يبرر بطبيعة الحالة التقاعس عن إبداع أفكار أصيلة، سواء في السينما أو الأدب أو في غيرهما من مجالات الحياة بصفة عامة في مصر والعالم العربي.

ليس بعيداً عن كتاب محمود قاسم وفكرة الاقتباس في السينما والأدب، شمل التمصير أيضاً أو ربما بدأ بالمصطلحات والتعابير الأجنبية، بحيث دخلت تلك المصطلحات والتعابير إلى العامية المصرية إمّا محوّرة لتناسب اللهجة المصرية (وذلك بالنسبة للكلمات والمصطلحات التي تُنقل دون ترجمة) وإمّا ممهورة بالطابع المحلي بما يمنح الانطباع بأنها ابتداع مصري أصيل (وذلك فيما يتعلق بالأمثال والتعابير الطويلة أو التي لا مناص من ترجمتها).

خصوصية الشخصية المصرية تطلّ هنا مجدداً وبوضح شديد، فالمصريون لم يعرفوا طوال تاريخهم كيف يتعاملون مع أي منتج مادي أو فكري أو معنوي مستورد إلا بعد إضفاء صبغة محلية عليه تتغلغل إلى أعماقه بحيث تُنسي الأصل الذي استُورد منه المنتج ليبدو كما لو كان مصرياً خالصاً. والمفارقة أن تلك النزعة قد طالت حتى “منتجات” الغزاة من الأمم التي احتلت مصر فلم يأخذ عنها المصريون “حرفياً” بل “مصريّاً”، أي بعد “عجن” المنتج المادي أو الفكري بالروح المصرية، وعلى الأرجح دون أن تكون ثمة نيّة وإصرار مسبّقان – في كل الحالات بالضرورة – لطمس الأصل غير المصري، وإنما هي عملية “استثقال” عفوية (وأرجو أن تجوز المفارقة في التعبير) لاستساغة أي منتج إلا بعد أن يدلف إلى الوجدان المصري معدّلاً بأقصى ما يمكن أن تبلغه حدود التمصير.

المفارقة أن “حيلة” التمصير قد تجاوزت استساغتُها المصرين إلى العرب لتنطلي على الأخيرين حبّاً وكرامة، ليس فيما يخص السينما فحسب وإنما بما يشمل كافة أنماط الحياة “المستوردة” عن الآخر الأجنبي. بل إنه في حالات عديدة – لعل السينما أبرزها – قد تمت عملية التمصير بأيدي أجنبية وعربية عملت على نقل صناعة “المنتج” العالمي أيّاً كان إلى مصر – وأحياناً تأسيس تلك الصناعة في مصر – لتنطلق بعدها إلى العالم العربي كما لو كانت مصرية صميمة.

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي ([email protected])