عمرو منير دهب يكتب: ما الذي تركه الفراعنة لأحفادهم؟

زارنا في المنصورة أيام الجامعة قادماً من القاهرة صديق مصري عزيز وقريب من أحدنا – منذ أيام الدراسة الثانوية في الخليج – فخرجنا نتجول في المدينة الصغيرة نسبياً والجميلة في بساطة آسرة خاصة لمن يفدون عليها من ضجيج القاهرة فيلتمسون من السكينة ويتذوقون من الجمال ما يغيب استشعاره باستمرار عن المقيمين فيها، سواءٌ من أهلها أو الوافدين عليها من الطلبة أمثالنا في ذلك الزمان الذي أضحى بعيداً.

تجاذبنا أطراف الحديث العفوي ونحن نتجوّل عصراً في شوارع المنصورة كطقس احتفائي نفضّله نحن ويفضّله زائرونا حينها على حدّ سواء. خلال ذلك تطرّق الحديث – الذي تغلّفه عفوية ساخرة وتتغلغل مودة صافية في أعماقه – إلى التاريخ والجغرافيا معاً، وكان صديقنا مندهشاً من حماستنا – نحن السودانيين – في الدفاع عن المنصورة مقابل المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية: “بتدافعو عنها بحماس، تقولش مولودين فيها!”.

نرشح لك: عمرو منير دهب: ذروة الحضارة المصرية

 

امتدّت الأحاديث العفوية طوال النزهة “الكَعّابي”، فجاء ذكر أصول سكان المدن المصرية وأصول المصريين والعرب بصفة عامة، واختلفنا اختلاف الشباب المتحمّسين كلّ في الدفاع عن فكرته، مهما تكن بساطة الفكرة المتفرّعة في سياق “ونسة” عابرة. بدا صديقنا المصري الأكثر حماساً في نفي نسبة الانتماء المصري جملةً واحدة إلى الفراعنة، على اعتبار التداخلات العرقية والحضارية التي عرفها المصريون على امتداد تاريخهم، وبطبيعة الحال جاء تعبيره عن ذلك خالياً من أية مصطلحات معقّدة، بل في بساطة: “مش ممكن ننسى كل الحاجات اللي جت بعد الفراعنة في التاريخ المصري وخصوصاً العرب”، ثم أردف كعادته مستنكراً وهو يشير في سخرية إلى المارة من حولنا: “يعني دا فرعون ودا فرعون ودا فرعون!”.

بات من الشائع أن النقاء الجيني، بمعنى الانتساب الخالص إلى عرق بعينه، يكاد يكون مستحيلاً في أيٍّ من مجتمعات اليوم على امتداد العالم، وذلك باستثناء المجتمعات التي توصف بالمغلقة أو البدائية والتي يشار إلى وجودها في بعض مناطق من أستراليا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية على سبيل المثال، وهي مجتمعات – في حال الوصول إليها – لا تعنيها على أية حال مسألة إثبات نقائها العرقي جملة وتفصيلاً.

ضمن كتاب “اختراع التقاليد” الصادر عن دار الكتب الوطنية بهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة عام 2013 بالتنسيق مع مطبعة جامعة كامبريدج من تحرير إيريك هوبزباوم Eric Hobsbawm وتيرينس رينجر Terence Ranger وترجمة أحمد لطفي، وفي بداية الفصل الثاني تحت عنوان “تقاليد إقليم المرتفعات الأسكتلندية” يقول المؤرخ الإنجليزي هوغ (هيو) تريفور روبر Hugh Trevor-Roper : “حين يجتمع الأسكتلنديون هذه الأيام للاحتفال بهويتهم القومية؛ فإنهم يعبرون عنها بأساليب تميزهم عن أي شعب آخر، حيث يرتدون “الكلتية” أو التنورة الأسكتلندية مربعة النقوش المعروفة باسم “الطرطان” والتي يعبر لونها ونقشها عن العشائر التي ينتمون إليها، وحين يأتي وقت الموسيقى يعزفون مزمار “القِرَب”. هذه الأداة الموسيقية بالذات التي يعتبرها أهل أسكتلندا من التراث القديم هي أداة حديثة إلى حد كبير، حيث اخترعت بعد الوحدة مع إنجلترا بوقت طويل، وكانت بمثابة احتجاج على إبرام هذه الوحدة”.

يواصل تريفور روبر: “وكانت “القِرب” موجودة قبل الوحدة كرمز أثري، لكن الغالبية العظمى من الأسكتلنديين اعتبروها رمزاً للهمجية، إذ كانت رمزاً للمتشردين والكسالى واللصوص والمبتزين من سكان إقليم المرتفعات “الهايلاند” الذين كانوا مصدر إزعاج، أكثر من كونهم مصدر تهديد، لأسكتلندا المتحضرة القديمة. وحتى في مناطق المرتفعات – رغم أن “القرب” كانت رمزاً أثرياً – لم ترمز إلى الأصالة، ولم تكن يوماً علامة تميز مجتمع المرتفعات”.

لا يكتفي المؤرخ الإنجليزي المثير للجدل بنفي رمزية القِرب من الناحية التاريخية في الإشارة إلى الأصالة الأسكتلندية بل يذهب إلى حيث ينفي الوجود المستقل لشعب مرتفعات أسكتلندا برمّته لأمد بعيد: “ولا شك في أن فكرة وجود ثقافة وتقاليد خاصة بالمرتفعات هي ابتكار حدث بأثر رجعي قبل السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر. ولم يشكّل سكان مرتفعات أسكتلندا شعباً محدداً، بل كانوا امتداداً للشعب الأيرلندي، وعلى هذا الساحل المبتور الذي تصعب عليه الحياة، وفي ذلك الأرخبيل بجزره الكبيرة والصغيرة، استطاع البحر أن يوحد الجميع ولا يفرقهم”.

وكنت قد عرضت لأكثر من مرة خلال قراءاتي للشخصيات الوطنية والقومية في أكثر من سياق إلى آراء بعض المفكرين الذين يرون أن الهويات القومية والوطنية – وحتى الشخصية – يتم اختراعها اختراعاً في مراحل بعينها من التاريخ وفق منعطفات سياسية أو اجتماعية أو ذاتية. وبرغم أن ذلك يبدو صادماً، فإنه صادق في كثير من المواقف، والأهم أنه ليس بالضرورة أمراً مشيناً يجب إنكاره، بل إنه مما لا غضاضة – وربما لا مناص في بعض الأحيان – من القيام به. فهوياتنا على أي صعيد لم تمض منذ الأزل على وتيرة واحدة كما نحتفي بها الآن، ولا ريب أنها لن تبقى ثابتة في المستقبل القريب، دع عنك فكرة أن تظل هوية ما راسخة بثبات إلى الأبد كما يمنّي كل مجتمع نفسه خلال الاحتفاليات الصاخبة على تعدّد أشكالها.

في السياق نفسه، ولكن بعيداً عن جدل مغامرات اختراع الهوية على الصعد الوطنية والشخصية والذاتية، يقول غوستاف لوبون في “القوانين النفسية لتطوّر الشعوب”، الطبعة العربية عن دار الرافدين ببيروت وبغداد عام 2019: “لكل أمة خواص نفسية ثابتة ثبات خواصها الجسمية تقريباً. والنوع النفسي كالنوع الجسمي أي المادي لا يتغير إلا على طول السنين ومرّ الأجيال. يوجد بجانب الخواص النفسية الثابتة الوراثية التي يتكون منها المزاج العقلي لكل أمة خواص ثانوية تنشأ من تغيرات البيئة وتتجدد على الدوام فيخيل لذلك أن الأمة في تحول مستمر كبير. المزاج العقلي لكل أمة هو خلاصة أفرادها الأحياء وأسلافهم الذين كونوها. فالشأن الأول في حياة الأمم للأموات لا للأحياء لأنهم هم الذين خلقوا شعورها الأدبي وهيؤوا الأسباب البعيدة في سيرها”.

بالحديث عن الحالة المصرية تحديداً، وبأخذ ما سبق في الاعتبار، فإن الهوية المصرية ظلت في حالة طبيعية من إعادة التشكّل عبر القرون، لكن ما ميّزها على الأرجح لم يكن استمرارية الحضارة المصرية بصفة عامة كما يشار في الغالب وإنما خصوصية تلك الاستمرارية كما أشرنا في مقام قريب: “تتجلّى خصوصية استمرارية الشخصية المصرية في قابليتها لمعاودة الاتصال/التواصل الحضاري الرفيع مع كل بزوغ لفجر مرحلة تاريخية جديدة زاهية وذلك انطلاقاً من آخر نقطة انقطع عندها مجد المرحلة الزاهية التي سبقتها لتشكل هذه الأخيرة مصدر إلهام رفيع بصرف البصر عن طبيعة السلطة السياسية والثقافة السائدة في هذه الحقبة وتلك”. وعليه، فقد بدت إعادة صياغة الهوية المصرية عند كل منعطف تاريخي أكثر يسراً بالقياس النسبي وليس بصفة مطلقة بطبيعة الحال، فمهما تكن مرونة الأمة وقابليتها للتعامل مع المنعطفات التاريخية الحادة تظل محاولة إعادة تعريف الذات وتجرّع التعريف الجديد لينعكس على حياة الأمة مسألة لا يمكن وصفها بالسهولة بحال.

وبتحديد أكثر دقة، فإن الهوية الفرعونية في مصر لا يمكن اعتبارها في أي من مراحل التاريخ المصري مخترَعة كما هو الحال على سبيل المثال مع الوجود الاسكتلندي كما نظر إليه تريفور روبر، ولكنها مؤكداً تعرضت لكثير من التغيّرات والصدمات على مدى تاريخ مصر الطويل والعريض (الفتح العربي الإسلامي قديماً ومرحلة القومية العربية حديثاً على سبيل المثال).

وإذا كان ممكناً القول بأن الحضارة المصرية قد حافظت على استمراريتها ولم تندثر بفعل الغزاة، فإن الأدق هو القول بأن ما عزّز خصوصية الحضارة المصرية أنها نهضت على مرّ الزمان بفضل تراكُم ما تركه أولئك الغزاة كلٌّ على طريقته. وهكذا لم تنطمس بحال آثار الأجداد الأوائل للمصريين حتى في أشدّ حالات المواجهة مادياً وروحياً من قبل الأمة الغازية للتراث الفرعوني الذي ظل الكثير منه مصوناً تحت التراب لقرون، في حين وقف بعضه شامخاً فوق التراب لذات القرون الممتدة عميقاً إلى جذور واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية.

هكذا، وبعيداً عن نتائج أية اختبارات متعلقة بالأحماض النووية للمصريين المعاصرين لاكتشاف مدى صلتهم بالفراعنة، تظل الآثار الخالدة التي بقيت لأولئك الجدود معيناً للإلهام بالبروز والريادة يبدو أنه مستقر عميقاً في العقل الباطن للمصريين حتى أولئك الذين لا يؤثرون مواجهة ذلك الانتماء.

للتواصل مع الكاتب: [email protected]