فيلم The Worst Person in the World.. كائن لا يحتمل نفسه

أندرو محسن  _ The Worst Person in the World

منذ ساعات أُعلنت نتائج مهرجان كان السينمائي، في دورته الرابعة والسبعين، والتي ذهبت سعفتها الذهبية إلى المخرجة جوليا ديكورنو عن فيلم Titane، الاختيار الذي أثار جدلًا كبيرًا نظرًا لأن الفيلم شهد انقسامًا في آراء من شاهدوه.

على الجانب الآخر ذهبت جائزة أفضل ممثلة إلى البلجيكية ريناتي رينسيف عن دورها المميز في فيلم The Worst Person in the World (أسوأ شخص في العالم) للمخرج يواكيم ترير، أحد الأفلام التي كان شهدت الكثير من الآراء الإيجابية. الفيلم هو الروائي الطويل الخامس في مسيرة المخرج البلجيكي، ويمثل الزيارة الثانية لترير لمسابقة كان.

The Worst Person in the World

The Worst Person in the World

 

نرشح لك: عودة شريهان.. (كوكو شانيل) اللعب مع الكبار

 

تتماس الشخصية الرئيسية للفيلم وبعض الأحداث مع الرواية الخالدة “كائن لا تحتمل خفته” لميلان كونديرا، وهو ما سننظر إليه خلال السطور التالية:

قصة حياتك في 12 فصلًا

في روايته، يقدم ميلان كونديرا عدة شخصيات تبدو عادية أقرب لنموذج نقيض البطل (Anti Hero)، تتمحور الكثير من مشكلاتها حول العاطفة والحب، الممزوجين بالسياسة. تعيد هذه الشخصيات خلال أحداث الرواية استكشاف نفسها وتحليل خياراتها المصيرية. توماس، أحد الشخصيات الرئيسية في الرواية، يبدو حاسمًا ويتخذ قرارات قاطعة بسرعة شديدة، حتى أنه تخلص من علاقته بزوجته الأولى وابنه وأمه وأبيه بضربة واحدة، لكنه يبدو هشًا وعاشقًا حقيقيًا عندما يتعلق الأمر بتيريزا، رغم خيانته الدائمة لها. وبقدر ما يبدو صلبًا في قراراته، فإن هذه القرارات لا تأخذه إلى الراحة كما كان يتوقع.

تدور أحداث الفيلم الذي كتب له السيناريو أيضًا يواكيم ترير في 12 فصلًا تظهر على الشاشة وتحمل عناوين واضحة، بالإضافة إلى فصل افتتاحي وآخر ختامي. نتابع جولي (ريناتي رينسيف) الشابة الثلاثينية الحائرة بين اختياراتها العاطفية والعملية. في بداية الفيلم تبدو جولي شخصية حاسمة أيضًا، إذ تترك دراسة الطب البشري وتقرر التخصص في الطب النفسي، ثم تجد أنها تحب التصوير الفوتوغرافي. تتأرجح طوال مدة الفيلم بين عشيقين، وبين اختيارها لما تود التركيز عليه من مواهبها، وهل ستعمل في التخصص الذي درسته أم ستتبع “شغفها” أم ستكتفي بوظيفة تقليدية وتمارس ما تحب على الهامش؟ في كل مرة تبدو جولي واثقة من أن هذا هو القرار الصحيح، لكن هل يكون صحيحًا بالفعل؟
يمكنك أن تعيد قراءة السطرين السابقين مرة أخرى، استبدل ببطلة الفيلم نفسك، وأعد تدوير الأمر في رأسك. ألا تمثل هذه الحيرة ما نمر به في حياتنا؟ عدم وجود إجابة نهائية شافية، عدم وجود خيار واحد صحيح يُفصح عن نفسه بسهولة ويجعلنا نرتاح له دون إعادة التفكير في الخيارات الأخرى. هذه الحالة وهذه الأسئلة المتكررة داخلنا، صاغها ترير بسلاسة يُحسد عليها من خلال شخصية جولي.

لا يكتفي السيناريو بأن يطرح هذه الأسئلة والحيرة الداخلية التي نشاهد وقعها على اتجاهات وخيارات البطلة، لكن أيضًا يتلاعب بشكل مدروس ببعض المفاهيم التي نظن أنها راسخة لا تتجزأ، مثل الخيانة.

في أحد مشاهد الفيلم، تقابل جولي في إحدى الحفلات إيفيند (هربرت نوردرم) ويقع إعجاب متبادل بينهما من النظرة الأولى. لكن كل منهما مرتبط، ولا يرغب في خيانة شريكه، فيظهر السؤال الذي سيحدد طبيعة علاقتهما في ما تبقى من هذا الحفل: ما هي الخيانة؟ من خلال التعريف الذي يتفق عليه جولي وإيفيند يستكملان سهرتهما معًا. ما هي الخيانة حقًا؟ هل التعلق العاطفي بشخص آخر غير شريكك هو الخيانة؟ أم أن الخيانة تقع فقط حال وجود علاقة جنسية؟
ربما أنت تفكر في الإجابة الآن، وهكذا ستجد أن جولي تشبهك مرة أخرى. فحتى ما نعده من الثوابت، نجدها تعيد تفكيكه وترتيبه مرة أخرى بما يتماشى مع ما تريده الآن، وما تريده الآن قابل للتغير لاحقًا.
الخيانة وإعادة تعرفيها حاضران أيضًا في “كائن لا تحتمل خفته“. في أحد الفصول الشهيرة من الرواية يعيد كونديرا تعريف بعض المفاهيم التي تبدو مطلقة ولا يمكن أن تخضع للتأويل مثل الموسيقى، وكذلك الخيانة: “لكن ما معنى أن نخون؟ أن نخون هو أن نخرج عن الصف لننطلق في المجهول. وسابينا لم تعرف ما هو أجمل من الانطلاق في المجهول”.

قليل من التمرد على الواقع

رغم القالب السردي الخطي والقالب الواقعي الذي يقدمه ترير، فإننا نشاهد كسرًا لهذا الواقع في تتابعين مميزين.

الأول حين نشاهد أن الحياة بالكامل توقفت حول جولي، حتى تذهب لمقابلة عشيقها. ربما نكون قد شاهدنا شبيهًا لهذه الفكرة في أفلام أخرى، البطل والبطلة يتلقيان في مكان مزدحم، وفجأة يتجمد كل شيء حولهما حتى يقتربان من بعضهما وينسحبان من الزحام ثم يعود كل شيء إلى طبيعته كأن شيئًا لم يحدث. المختلف والمميز في التتابع المشار إليه في الفيلم، هو أن الحركة توقفت بينما الزمن لم يتوقف. تذهب جولي إلى عشيقها في النهار ونشاهدها تقضي معه يومًا كاملًا ثم تعود إلى بيتها في اليوم التالي لتستأنف الحياة من حولها طبيعتها مرة أخرى.

ربما نجحت جولي في اتخاذ قرار، ربما نجحت في التخلص من كل من حولها، لكنها لن تنجح في التخلص من الزمن، قد تسرق يومًا من حياة من حولها ولكن هذا اليوم محسوب من عمرها وأعمارهم. رغم جمال وشاعرية هذا التتابع، فإنه يشير أيضًا إلى خوف، الخوف الذي يُفصح عن نفسه بشكل أكبر في التتابع الثاني الذي نود الإشارة إليه.

بعد تعاطيها للمواد المخدرة، تدخل جولي في حالة من الهلوسة تجعلها تتصور الكثير من الأمور غير الحقيقية والتي يصورها لنا المخرج بتحرر كبير من الشكل الواقعي، إذ نشاهد بعض لقطات التحريك أيضًا في هذا التتابع. مخاوف جولي المختلفة والتي تشير إليها بشكل عابر منذ بداية الفيلم نشاهدها أخيرًا مجسدة من خلال التتابع، الشيخوخة والأمومة وغيرهما، في ترابط سردي وبصري مُحكم يمزج بين هذه المخاوف في ما يشبه الحلم، أو الكابوس للدقة.

هذا التصور الخيالي للمخاوف، نقرأه شبيهًا له في “كائن لا تحتمل خفته”. تيريزا تحلم بشكل متكرر بأنها تسير عارية وسط مجموعة من النساء العرايا اللاتي يغنين أمام توماس، قبل أن يطلق هذا الأخير النار عليهن واحدة تلو الأخرى، وقد كان هذا الحلم يجسد أكبر مخاوف تيريزا لأسباب مختلفة.

بعيدًا عن هذين التتابعين، يقدم لنا المخرج سردًا هادئًا تحركه الشخصية الأساسية واختياراتها بالأساس، دون وجود أسباب أو حبكات كبرى تحرك الأحداث، بل أن عدة تحولات كبرى في الفيلم جاءت نتيجة الصدف. قد تكون كلمة “الصدفة” سيئة السمعة دراميًا إذ أن بعض كتاب السيناريو يستخدمونها لحل بعض المشكلات التي لا يجدون لها حلًا دراميًا مقنعًا. على العكس، يقدم ترير الصدف في الفيلم بشكل مشابه للنسيج العام، فهي صدف لا ينتظرها المشاهد ولا تنتظرها الشخصيات لحل أزمة ما، هادئة ويمكن أن نصدق إمكانية حدوثها لهذه الشخصيات في هذه الظروف، لكن عندما تقع، يترتب عليها تحولات كبرى.

في هذا أيضًا يتماس الفيلم مع الرواية، إذ كان اللقاء الأبرز بين توماس وتيريزا نتيجة “ست صدف” وليس صدفة واحدة، ولو كانت اختفت إحداها فقط لاختل البناء ولما تحقق ارتباط الاثنين.

فيلم “أسوأ شخص في العالم” يقدم شخصية سيجد الكثير من المشاهدين أنفسهم فيها وفي ظروفها أيضًا. واكيم ترير، يستطيع أن يجعل جولي تُقدم على الكثير من الأفعال التي بالتأكيد كان المشاهد سيكرهها أو سيدينها إذا جاءت من شخص آخر، لكن صانع الفيلم يجعلنا طوال الوقت نشعر بحيرة وارتباك هذه الشخصية ونضع أنفسنا مكانها، حتى لا يحكم عليها المشاهد في النهاية بأنها أسوأ شخص في العالم، وإلا لكان هو نفسه كذلك.