عمرو منير دهب يكتب: المطبخ المصري عبر العصور

المطبخ المصري

مع بلد عريق – بل واحد من أعمدة الحضارات الإنسانية القديمة كمصر، لا بد من أن يكون للطعام وطرائق إعداده وطقوس تناوله حظ وافر.

فمفهوم “الطعام ثقافة” ليس وليد العصر الحديث وإنما ضارب بجذوره في القدم إلى حدود بعيدة قد يصعب على كثيرين تصديقها، حيث تبدو فكرة أن الطعام ثقافة كما لو كانت مرتبطةً بالوفرة، وعليه فإن من الحكمة هنا الانتباه إلى ملاحظتين: الأولى أن ثقافة الطعام تعني كل ما يحيط به من حيث الأنواع
وطرق الإعداد والتقديم، وحتى سلوك الشعوب لسدّ رمقها في أوقات العوز بل وربما خلال المجاعات.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: مهارة الأيدي المصرية


الملاحظة الثانية هي أن الوفرة ليست هبة العصر الحديث فحسب على ما يتوارد إلى الخاطر في الغالب، فالحضارات البارزة على اختلاف العصور أفرزت وفراتها الخاصة كمّاً ونوعاً. وإذا كانت من سمة لعصرنا هذا مع الوفرة فهي أنها لم تعد حكراً على الصفوة من الطبقات الحاكمة والنبلاء الأثرياء بل تعدّت إلى إمكانية أن تشمل كافة الناس كل بحسب سعيه وحظّه، وغنيّ عن القول سوى من باب التذكير أن ذلك لا يعني أن الرخاء قد ساد بحيث ضُرب الفقر في مقتل، فالشرائح التي لا تتمرغ في نعيم الوفرة موجودة في كل مكان وزمان بدرجات عظيمة التفاوت بدورها.

والحال كتلك، لن يكون غريباً أن يبرز المطبخ المصري بثرائه عبر العصور، وإن يكن الأكثر تميّزاً أن يحتفظ ذلك المطبخ ببعض أطباقه لعشرات بل مئات السنين، وأحياناً قد تمتد أصول طبق ما إلى بضعة آلاف عام مع تغيّر المقادير وطرق الإعداد بطبيعة الحال.

البحث في مطبخ الفراعنة ينطوي على ويسفر عمّا هو تاريخي وثقافي بصفة عامة أكثر مما هو متعلّق مباشرة بأسرار الطبخ، ولكنها أشبه برحلة لن تخلو من الفائدة والدهشة والمتعة.

فعندما نعلم أن مطبخ مصر الفرعونية احتوى على الخبز والخضروات والحبوب والأجبان واللحوم والفواكه وبعض الحلويات المصنوعة من الدقيق والمشروبات، كل ذلك بأنواع وأشكال متعددة، وأن أدوات الطهي وتناول الطعام في مطابخ الفراعنة قد شملت الهاون والمطحنة والفرن والأواني والملاعق والسكاكين، كل هذا بطبيعة الحال بأشكال صناعية بسيطة وأحياناً بدائية، عندما نعلم ذلك ربما نتساءل: ماذا الذي لم يشمله ذلك المطبخ إذن؟

في الواقع تطوّرت خبرة الطبخ تطوراً مذهلاً على مرّ العصور، ليس في مصر وحدها وإنما في أنحاء العالم قاطبة، ومن قبل فإن الطعام نفسه قد تطوّر في كل بقعة وذلك على سبيل المثال باكتشاف كل شعب لأنماط من الغذاء الخام لم يكن يجرؤ على تناولها، أو من خلال انتقال الأطعمة من بقعة إلى أخرى عبر البحار على امتداد العالم، سواء مع الفتوحات الحربية العظيمة أو عبر انتقال سلس مع تجّار مرتحلين أو جماعات مهاجرة.

مع مصر تحديداً، وكما أشرنا، شكّل التاريخ الزاخر بالحضارات مختلفة الجذور -والمتحدة بدورها في نمط فريد للشخصية المصرية آخر المطاف- مائدة ممتدة حوت عبر العصور أشكالاً وألواناً من الطعام متجددة وبالغة الثراء.

وليس مما يعنينا في هذا المقام أن نقف على المطبخ الفرعوني أو غيره من مطابخ العصور المصرية القديمة لنبيّن أن أصل هذا الطبق أو تلك الأكلة كان مصرياً صميماً، بقدر ما يعنينا أن نشمّ عبق المطبخ المصري وهو يثري أركانه بمختلف تجارب الحضارات والثقافات الإنسانية التي كان له نصيب من الاحتكاك بكل منها بطريقة أو بأخرى، وهو نصيب عظيم أفرز بدوره تجربة طعام بالغة الخصوصية كعادة ما هو مصري على كل صعيد.

لعل أشهر ما بقي من كتب الطبخ في العصور العربية القديمة هو “كتاب الطبيخ” لابن سيّار الورّاق من العصر العباسي. نُشر الكتاب في القرن العاشر الميلادي، وهو يبين غنى موائد الثقافة العربية الغذائية حينها، وهو ثراء اكتُسب بالانفتاح على الثقافات الأخرى بطبيعة الحال. الكتاب، نقلاً عن ويكيبيديا العربية، يحتوي على أكثر من 600 وصفة مقسمة إلى 132 فصلاً، إضافة إلى “فوائد صحية وطبية ونصائح غذائية وكذلك وصفات عملية لأصناف متنوعة من الطعام والشراب والحلوى وحتى أطعمة المرضى وأطعمة الصوم للنصارى، وفيه أيضاً أبواب فيها وصفات لتحضير ما ينظف الأيدي وتخليل الأسنان ثم ختم الكتاب ببعض آداب المؤاكلة والمنادمة والنوم والحركة بعد الأكل وأهميتهما وما قيل في الطعام وآدابه من الشعر”.

على ذلك، فإن كتب “الطبيخ” القديمة لدى العرب كانت فيما يبدو موسوعية في بابها بحيث لم تقتصر على سرّ خلطة هذه الأكلة أو تلك وإنما امتدت لتشمل كل ما يتعلق بالطعام، تحقيقاً عملياً مباشراً للمقصود بتعبير “ثقافة الطعام”.

في مصر، لم يبق من كتب الطبيخ القديمة سوى واحد لكنه عظيم الفائدة، بل عظيم الفوائد كما يشير عنوانه بصدق: “كنز الفوائد في تنويع الموائد”.

وأهمية كنز الفوائد هذا تتجلّى أيضاً في كونه يدلّ على مغزى عبارة “ثقافة الطعام”، غير أنه يتجاوز ذلك إلى دلالات أكثر عمقاً وثراءً تتعلق بإمكانية أن يشكّل كتاب حول الطبخ لمؤلف مجهول من العصور الوسطى مرجعاً ليس لثقافة الطعام فحسب وإنما للعديد من أنماط العيش وتجليات الحياة في ذلك الزمان.

كُتِب “كنز الفوائد” في القرن الرابع عشر الميلادي في مصر المملوكية، واكتشفت مخطوطته أوائل القرن العشرين ولكن تحقيقها لم يكتمل إلا أواخر ذلك القرن بواسطة مانويلا مارين وديفيد واينز حيث صدر الكتاب عام 1993 بعد طباعته في المطبعة الكاثوليكية ببيروت على نفقة وزارة الأبحاث العلمية
والتكنولوجية التابعة لألمانيا الاتحادية بإشراف المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت.

تُرجم الكتاب قبل بضعة أعوام إلى الإنجليزية من قبل الكاتبة والمترجمة العراقية نوال نصر الله التي تؤكد فرادة الكتاب وأهميته المرجعية ليس في باب الطبخ فحسب وإنما لغوياً واجتماعياً وفي غير ذلك من أبواب الحياة كما أسلفنا التنويه. الكتاب يعدّ كنزاً ليس فقط لأهميته المرجعية هذه وإنما ابتداءً لأنه “الناجي” الوحيد من كتب الطبخ المصرية القديمة على مرّ العصور، وقد وصل الكتاب إلينا ليس عبر مخطوطته الأصلية وإنما عبر نسخة منسوخة عن أكثر من نسخة على الأرجح، وهو على كل حال يبيّن بجلاء ازدهار الطبخ الذي ينمّ بدوره عن أن أنماط العيش في مصر المملوكية لم تخلُ من الازدهار في كل أوقاتها.

هذا، ويبدو على وجه العموم أن تأثير التلاقحات الثقافية مليء بالمفارقات عبر القرون، وذلك كما يمكن قراءته على سبيل المثال من التعليقات التي حظي بها كتاب فريد هو Cooking in Ancient Civilizations لكاثي ك. كوفمان Cathy K. Kaufman الأستاذة بمعهد تعليم الطهي في مدينة نيويورك، والصادر تحت عنوان “الطبخ في الحضارات القديمة” في ترجمته العربية من قبل سعيد الغانمي.

فمراجعات الكتاب القيّم من قبل القرّاء على الإنترنت لا تخلو من دهشة مغلفة بالتعبير عن الإعجاب بالكتاب وهي تستعرض معلومات تبدو من قبيل المفارقات العصية على التصديق، مثل أن الأرز لم يُعرف في مصر والمغرب العربي إلا بعد الفتح الإسلامي، وأن التجار الفرس هم الذين أدخلوا الدجاج إلى الموائد المصرية. وعلى صعيد متصل، يقال إن قصب السكر أيضاً دخل مصر بعد الفتح العربي الإسلامي، هذا بينما مصر الآن مشهورة بالقصب وعصيره على نحو شديد الخصوصية في محيطها الإقليمي.

مفارقات التأثيرات الثقافية لا تعرف حدوداً، حتى إن تاريخ البشرية يوشك أن يُقرأ على أنه تاريخ المفارقات بوصف المفارقة مرادفاً لفكرة تداول الأيام بين الناس. الطبخ إذن ليس بدعاً في هذا، وفي كل مكان وليس في مصر وحدها، فكتاب “الطبخ في الحضارات القديمة”، التي يجملها الكتاب على ما يبدو في بلاد الرافدين ومصر واليونان وروما، مليء بالقصص والمعلومات التي تؤيد تلك البديهية الوجودية.

هذا، وتذكر بعض المراجع أن اليونان أصل للعديد من المعجنات، والمطبخ اليوناني لا يزال عامراً ولكن ليس بشهرة عالمية في المخبوزات تحديداً.

وتذكر نوال نصر الله أن مطبخ أوروبا في القرون الوسطى تأثر بالمطبخ العربي. كذلك تشير بعض المراجع إلى أن أكبر مائدة تاريخية كانت في بلاد الرافدين إبان الحضارة الآشورية، وتضم المائدة أرقاماً قياسية في أعداد المدعوين وأشكال وألوان الطعام المقدمة.

وبرغم أن المائدة العراقية ظلت عامرة عبر القرون ولا تزال، فإنها ليست ضمن الأشهر عالمياً أو حتى عربياً الآن، فالمطبخ اللبناني أكثر شهرة على النطاق العربي لا ريب، كما إن المطبخ المغربي اكتسب شهرة عالمية بخصوصية منقطعة النظير بالنسبة للمطابخ العربية.

وعند العودة للتركيز على المطبخ المصري ستتراءى لنا خصوصيته الفريدة كما هو معتاد مع كل ما هو مصري، فعربياً ينطبق ما ذكرناه قبل قليل على الحالة المصرية، فالمطبخ المصري ليس في شهرة المطبخ اللبناني في الأسواق العربية، ولا في خصوصية المطبخ المغربي عالمياً، غير أنه مع ذلك
اكتسب فرادته ابتداءً من مؤثرات عظيمة امتدت وتشكّلت عبر القرون، وإن يكن الأجدر بالانتباه أن الأطباق المصرية قد اخترقت قلوب العرب (لا بطونهم فحسب) ليس من خلال المطبخ المصري مجرّداً وإنما مضمّخة بحكايات وطرائق حياة الشخصية المصرية على كل صعيد.

للتواصل مع الكاتب من خلال البريد الإلكتروني التالي ([email protected])

المطبخ المصري

من محمد صلاح لهنيدي والسقا.. غرائب وطرائف فوبيا المشاهير.. مانجا وحشرات وشموع!

عيد الأضحى 2021