عمرو منير دهب يكتب: مهارة الأيدي المصرية

“وإذا حقّ لنا أن نقول إن الآثار الأدبية كانت لم تزل باقية يعتزّ بها في الإسكندرية فإنه يحق لنا أكثر من ذلك أن نقول إن الفنون كانت بها زاهيةً مزدهرةً. فقد كان بنيان المدينة يأخذ بالألباب بعظمته ورونقه، من أسوار منيفة وحصون منيعة، وقصور براقة، وكنائس فخمة وطرق ذات عُمد مرصوصة، وكانت مهارة البنائين على عهدها لم تضمحل، ولم تضعف عما عليه في أيام (جستنيان) إذ اتخذ من أهل الإسكندرية ذلك البنّاء الذي أقام الساحة الكبرى بالقسطنطينية، بها ألف عمود وعمود، ولا تزال إلى الآن باقية، ورؤوس الأعمدة في هذه الساحة يرجع إليها الفضل كما يقول الأستاذ (فيرمن) في الانفصال عن قيود الماضي انفصالاً تامّاً والتمهيد للبناء الجليل الذي أقامه (أنتيميوس) ألا وهو بناء القديسة صوفيا، وكان حجر السماق الأحمر والأخضر الذي استعمل في تحلية هذا البناء يؤتى به من مصر محمولاً في النيل، وكانت مصر منذ أيام الفراعنة شهيرة بما فيها من المرمر البديع، وكانت حلية الكنائس والقصور في جميع بلاد العالم من هذا الحجر الثمين، وكانت سوقه في الإسكندرية، وبقيت هناك حتى قضي عليها في أيام الفتح العربي”.

نرشح لك: عمرو منير دهب: مصر وجيرانها عبر الزمان

ذلك مما ورد في كتاب “فتح العرب لمصر” The Arab Conquest of Egypt لأفريد ج. بتلر Alfred J. Butler ، النسخة العربية من ترجمة محمد فريد أبو حديد بك وتحقيق الدكتورة نهلة أنيس مصطفى ومراجعة الدكتور أيمن فؤاد سيد، عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة سنة 2019. هذا، ويُذكر في تقديم الكتاب والتعريف به أنه تحرّى الإنصاف سواء فيما يتعلق بأمّة القبط أو بالفاتحين العرب على حدّ سواء، ولكن من الحكمة الانتباه إلى أن الإنصاف المطلق مستحيل بطبيعة الحال، ووجهة نظر أي مؤلف في أي موضوع لا يمكن التملّص من سيطرتها حتى إذا خلا حُكمُه من سوء النية في “تزوير” التاريخ الذي لا يمكن أن يقرؤه أيٌّ من الناس إلا متأثراً بما حوله ومَن حوله من الظروف والمرجعيات والبشر على اختلاف مستوياتهم، فضلاً عن نزعات الرؤى الذاتية التي لا يمكن بحال أن تلاقي قبول الجميع، بتذكّر أن المعنيّ بذاتية وجهات نظر المؤرخ تحليلُه الخاص لمعطيات المراجع التي بين يديه والمصادر التي تكمن فيما وراء ذلك مما لا غنى عنه لمؤرخ أو محلل في أي حقل من الدراسات، وهو تحدّ يتضاعف عبؤه مع الدراسات الإنسانية بصورة خاصة.

المهم أن الكتاب يبدو بالفعل كما لو كان يتحرّى الابتعاد عن الانفعال في الحكم بحرص شديد وهو يتناول موضوعاً شديد التعقيد من ناحية تحرّي رصد الأحداث ومن ناحية قراءتها وتحليلها كذلك، خاصة والمؤلف يحصر جهده في تناول ما يحيط بفتح العرب لمصر رجوعاً إلى أسانيد القبط والأرمن والسوريان واللاتين والعرب وغيرهم، غير مكتفٍ بالإحالة إلى دواوين أخبار العرب وما يرد فيها بإيجاز عن فتح مصر، وذلك كما يجيء في تقديم الكتاب والتعريف الموجز بمؤلفه.

في بدايات أيام الدراسة الجامعية خرجنا في رفقة زميل أكبر سنّاً وتجربة في مصر حينها، وعندما مررنا بأحد شوارع المنصورة على فنيّ يعمل بانهماك في إصلاح الساعات على كشك بالغ الصغر استوقفنا ذلك المشهد، فألمح زملينا ذاك إلى أن أمثال تلك المهارات اليدوية الدقيقة مما يبرع فيه المصريون. وبعد حوالي ثلاثين عاماً حدّثني جرّاح سوداني ماهر عن بعض الجراحات الدقيقة المتطورة التي يجريها الجراحون المصريون، وعندما سألته كيف يمكنهم الحصول على متطلبات و”أسرار” إجراء ذلك النوع الدقيق من العمليات بعد فترة قصيرة من ابتكاره في الغرب أجابني بأن الأمر لا يتطلّب من المصريين أكثر من دعوة جرّاحي الدولة الغربية المبتكرة لتلك الجراحات النادرة لزيارة مصر وإجراء عمليات من ذلك النوع الدقيق لبعض الحالات الحرجة، وبعد مشاهدة بضعة نماذج للعلمية الجراحية المبتكرة يغدو في إمكان فريق الجراحة المصري القيام بالعملية المعقدة مباشرة في أعقاب انتهاء زيارة الجراحين الأجانب، وربما قبل أن تحطّ الطائرة التي تقلّهم عائدين بمدرج مطار بلادهم. هذا، وقد خبرتُ شخصياً من براعة المصريين ما يفوق الحصر العابر من الأمثلة ما بين النموذجين المذكورين، على شدة الفارق التقني بينهما وطول المدة التي تفصلهما من الزمان.

مهارة الأيدي المصرية جزء من براعة المصريين في العمل، التي هي بدورها وليدة تاريخ طويل من التجارب العميقة المتداخلة توارثاً عن حضارات عديدة خلع كلٌّ منها سحره على مصر بطريقته الخاصة، بحيث تجمّعت كل تلك الطرائق وانصهرت في البوتقة الفريدة التي أنضجت وشكّلت الشخصية المصرية عبر القرون.

يواصل بتلر ما يمكن أن يُقرأ في باب براعة الأيدي المصرية، وذلك خلال عرضه الذي لا يشمل فقط الحقبة من القرن السابع الميلادي وإنما يمتدّ إلى الوراء لينبش في جذورها وأشهر المؤثرات فيها: “وأما صناعة الزجاج فقد بقيت معروفة ذائعة الصيت زمناً طويلاً في الإسكندرية وصحراء النطرون، وقد قال (سترابو) إن صنّاع الزجاج في مصر كانت لهم أسرار يحفظونها ولا سيما في معامل (ديوسبوليس) وإنهم كانوا يقلدون الجواهر في صناعتهم ويعملون قماقم المر، وكان الزجاج من بين الأشياء التي فرضها(أغسطس) على مصر ترسل عيناً ضمن الجزية السنوية، ولا تزال في متحف الإسكندرية أمثال بديعة من منتجات هذه الصناعة، ولا خلاف في أن هذه الصناعة أسلمها القبط بعضهم لبعض جيلاً بعد جيل حتى العصور الوسطى، وكان آخر ما أخرجته تلك الصناعة المصابيحُ المطعمة الفاخرة التي كانت تزين الكنائس والمساجد، وهي اليوم مفخرة المتاحف التي تجمع آثار العصور الوسطى”.

وتأكيداً للإقرار بفضل القبط في الحفاظ على الصناعات اليدوية يواصل المؤلف: “وكانت منسوجات الكتان والستائر ذات الصور – التي تتخلل نسيجَها خيوطٌ من الذهب وتُوشيها النقوش البديعة من التطريز في ألوان جميلة – كانت كلها من صناعة الصانع القبطي، وإنا كلما أمعنّا في درس تاريخ مصر سواء منه ما كان في العصر البيزنطي أو العصر العربي زاد يقيننا بأن القبطَ كانوا أصحاب الفضل في بقاء آثار الصناعة حيةً ماثلة في البلاد وذلك في كل شعبة من شعبها: في صياغة الذهب وتطعيم المعادن والزخرفة بالميناء وصناعة الزجاج وغير ذلك من صناعات الإنشاء أو التجميل”.

هذا، ويتجلّى حرص ألفريد ج. بتلر على الموضوعية بما يدعو إلى التقدير في المقتطف التالي بصفة لافتة، فبراعة المصريين وبداعة صناعاتهم لا تعني أن براعة الشعوب الأخرى وبداعة صناعاتها لم تكن جديرة بالانتباه، بل هي كما رأينا وذكرنا مراراً شكّلت في الغالب سبقاً وإلهاماً عرف المصريون كيف يفيدون منهما: “على أنه لا بد لنا أن نتدارك خطأ قد يقع فيه من يتصور أن المهارة في الصنعة وحسن الاختيار والبصر كانا وقفاً على القبط فاقوا فيهما كل من عداهم من صناع الدولة البيزنطية أو أرمينيا وآشور وفارس، فإن ذلك لم يكن. والحق أنه قد كان بكل بلاد الشرق صناعة فائقة تخرج من المنسوجات، والمطرزات وآنية الذهب والفضة والجواهر البديعة الصنع، ولقد كانت مصر تصنع الطنافس الجميلة، ولكنا لا نقدر أن نقول إنها كانت تضارع ما تخرجه بلادُ الفرس من طنافسها البديعة. وكذلك كان الحال في بعض الرسوم التي توضح الكتبَ، فقد جاء بعض بدائعها من صناعة فارس والعراق كما جاء من صناعة بيزنطة وكانت أكبر المصابغ التي يُصبغ فيها الحرير الأرجواني الذي يصنع منه بُرد الملك في مدينة بُصرى بالشام. وهي المدينة التي فتحها الفرسُ ثم العرب من بعدهم، وقد رأينا فيما سلف أن كسرى لم يكن من الملوك الهمج أو أشباههم بل كان رجلاً مهذباً عالماً، وكانت فنون الفرس في عهد الساسانيين قائمة على آثار القدماء من الآشوريين والبابليين، وكانت تضارع فنونَ الدولة البيزنطية في الدقة وحسن الانسجام. وكانت فوق ذلك ذات أثر أبلغ من أثر الروم في صناعة العرب ونشأة مذهبها في الرسم والنقش، وهو المذهب الذي اشتهرت به دمشق في العصور الوسطى”.

وهكذا، فإن مصر قد صعدت إلى ذرى مشاهد الحضارة الإنسانية عبر العصور ليس بالضرورة بابتداع كل صنعة، ولكن مؤكداً عبر مهارة فريدة تتجلّى في كيفية الإفادة من كل ما تختبره أو يمرّ بها أو حتى تقع عليه عينها من أشكال العلوم والآداب والفنون.

للتواصل مع الكاتب من خلال البريد الإلكتروني التالي ([email protected])