قصة يوم عاشت فيه مصر بدون صحافة!

طاهر عبد الرحمن

تمر اليوم – 5 يونيو – الذكرى الـ70 لواحد من أهم الأحداث التي عاشتها الصحافة المصرية على الإطلاق في تاريخها منذ نشأتها في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وهو حدث لم يسبقه أو يلحقه حدث مماثل.

في مثل هذا اليوم من عام 1951 احتجبت كل الصحف المصرية عن الصدور، وعاشت فيه مصر بلا أي صحيفة، وذلك اعتراضا على مشروع قانون تقدم به أحد نواب حزب الوفد للرقابة على الصحافة وتقييد حريتها، بإيعاز مباشر من الملك فاروق، الذي رأى أن الصحافة المصرية تخطت حدودها في تناول سيرته وسيرة عائلته، بعد عدة فضائح أخلاقية ومالية.

نرشح لك: متى ظهر “العنتيل” في الصحافة المصرية؟

تأتي أهمية ذلك اليوم في تاريخ الصحافة المصرية أنه لم تكن له سابقة أو لاحقة مماثلة، بحيث تحتجب كل الصحف المصرية مرة واحدة وفي يوم واحد، مما شكّل ضغطا كبيرا على الحكومة جعلها تقرر التراجع عن مشروع القانون وتلغيه تماما.

سوابق محدودة

توجد في تاريخ الصحافة المصرية عدة سوابق للاحتجاب على الوضع السياسي أو حرية التعبير، لكنها كانت سوابق محدودة أو منفردة، مثل احتجاب صحيفة “العلم”، جريدة الحزب الوطني بقيادة الزعيم محمد فريد، عام 1914 اعتراضا على إعلان السلطات العسكرية البريطانية الحماية على مصر، وكان قرارا بالاحتجاب الدائم.

وتكرر مرة أخرى – عام 1921 – عندما أعادت سلطة الاحتلال البريطاني الرقابة على الصحف المصرية، وقتها قرر أصحاب تلك الصحف الاحتجاب لمدة ثلاثة أيام اعتراضا، لكن معظم الصحف لم تلتزم بالقرار.

وهكذا انفرد يوم 5 يونيو 1951 – كما يقول الأستاذ صلاح عيسى في كتابه البرنسيسة والأفندي – بأنه أول – وآخر – يوم تعيش فيه مصر بلا صحف من أي نوع منذ عرفت الصحافة قبل قرن ونصف القرن.

وتكرر الأمر – بصورة فردية أو شبه جماعية – في عصور لاحقة، أبرزها في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 1995 وقت محاولة الحكومة إجراء تعديل على قانون الصحافة.

الصحافة المصرية

طلب الملك

في بداية عام 1951 كانت فضائح العائلة المالكة على كل لسان وتفاصيلها منشورة على صفحات الجرائد والمجلات، وهو ما أزعج الملك فاروق الذي طلب من حكومة الوفد – ورئيسها مصطفى النحاس باشا – بمصادرة أية جريدة أو مجلة تنشر أخبارا عن عائلته دون إذن مسبق من وزير الداخلية، واعتذر رئيس الحكومة عن تنفيذ ذلك لأنه لا يستطيع تعطيل الصحف أو مصادرتها إداريا، لأن ذلك من سلطة القضاء طبقا للمادة 15 من الدستور المصري الصادر عام 1923.

ومع أن الملك بنى طلبه استنادا على النص الأخير في تلك المادة الذي ينص على “أن تعطيل الصحف محظور إلا إذا كان ضروريا لحماية النظام الاجتماعي” وهو ما طبقته الحكومة على جريدة “مصر الفتاة” الاشتراكية، لكنها لا تستطيع تطبيقه على بقية الصحف.

انقسام حزب الوفد

في ذلك الوقت انقسمت الحكومة على نفسها، فريق يرى تنفيذ طلب الملك حفاظا على العلاقات الودية التي تربطها به، بعد سنوات من الصراع والمشاكل، وفريق آخر يرى عدم تنفيذ طلبه لأنه يتناقض مع مبادىء الحزب الذي يرفع شعارات الحرية والليبرالية منذ تأسيسه.

هذا الانقسام الحاد هو الذي دعا صحيفة “المصري” – أكبر الصحف الوفدية – إلى مهاجمة الحزب الذي تتحدث باسمه لأول مرة في تاريخ الحياة الحزبية المصرية.

الصحافة المصرية

مشروع مفاجىء

على الرغم من الانقسام الحاد في صفوف الحزب إلا أن الفريق المناصر للملك طلب من أحد نواب الحزب، واسمه “استيفان باسيلي”، التقدم بمشروع قانون جديد للرقابة على الصحف، ومن بين بنوده تغليظ العقوبات عليها، من بينها مصادرة الصحيفة نهائيا وحبس الصحفيين فيما اعتبرته جرائم نشر تهدد النظام الاجتماعي.

الغريب في الأمر أن ذلك النائب – وفي محاولة تبريره لتقديمه ذلك القانون – صرح بأن “السيدة العذراء” جاءته في المنام وطلبت منه ذلك (!)، وهو ما اعتبره الكثيرون من الصحفيين والكتاب “تخريف” لا يليق بمقام عضو في مجلس النواب يمثل الأمة.

قرار بالاحتجاب

كان مشروع القانون غريبا ومفاجئا، وأكثر من ذلك متناقضا مع مبادىء حزب الوفد، الذي كان يهدم تاريخه لمجرد محاولة إرضاء الجالس على العرش، ولذلك لم يكن أمام الصحافة المصرية إلا أن “تخوض أمجد معاركها دفاعا عن الديمقراطية وحرية الرأي والضمير والمعتقد، فتلجأ إلى أسلوب للاحتجاج على تلك التشريعات لم يسبق له له مثيل، ولم يتله – في شموله واتساع نطاقه – شبيه، فتحتجب جميعها في يوم واحد” – كما يقول صلاح عيسى.

وهكذا لم تجد الحكومة مفر من سحب مشروع القانون، ويدخل يوم 5 يونيو 1951 تاريخ الصحافة المصرية كواحد من أهم أيامها.