في حب مصر كثيرة الأعراق

عمرو منير دهب

الإشارة في العنوان واضحة إلى بيت حافظ إبراهيم:

كم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي ** في حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ

ومصر كثيرة العشاق بلا ريب، لن أقول برغم كثرة منتقديها سلباً بل حتى من قبل أولئك المنتقدين الكُثر، فالخلاف مع مصر على أي صعيد لا يطغى على حبها فيجبّه بقدر ما تعمد الرحابة والمرونة المصرية إلى كل خلاف مع الآخر على أي صعيد فتذيبه أو على الأقل تحتويه في كنف توليفة من طباع وصفات شديدة الخصوصية قادرة على أن تستميل ألدّ الأعداء في أعقاب أشدّ الخصومات بكلمة طيبة وابتسامة آسرة وروح مرحّبة كأنها لم تكن في أشرس حالات المواجهة من قبل.

هل لكثرة العشاق كما في السياق أعلاه علاقة بكثرة الأعراق؟ ليس بالضرورة، ولكن علاقة كثرة العشاق بخصوصية مصر الفريدة مؤكدة، ومؤكد كذلك أن كثرة الأعراق قد ضخت في الجينات المصرية – بالمدلولين الحرفي والمعنوي – الكثير من الصفات شديدة التميّز بما أفرز ما نشير إليه باستمرار من خصوصية فريدة، وذلك كما رأينا في أكثر من سياق سابق.

نرشح لك:  ملخص موكب نقل المومياوات الملكية في 12 نقطة


النقاء العرقي لم يعد ممكناً بحال في أي مجتمع حديث وفق ما عرضنا فيما مضى، والواقع أن ذلك الانتفاء للنقاء العرقي ليس وليد المجتمعات الحديثة فحسب – بالجرأة في التوسّع في تعريف الحداثة إلى أي مدى ووفق أية مرجعية – وإنما هو قديم على قدر ما يمكن تأريخ بدايات الهجرات البشرية في كل بقعة معمورة من الأرض.

وعليه، فإن السؤال المطروح اليوم على صعيد الأعراق في أي مجتمع لا يجب أن يكون عن النقاء، كما إن أي اعتراف بانتفاء الصفاء العرقي يُعدّ اعترافاً منقوصاً إذا لم يتضمن إقراراً بأن ما يتغلغل في جينات أي مجتمع معاصر ليس أكثر من عرق واحد فقط وإنما مجموعة متشابكة من الأعراق التي يستعصي فضّ شفراتها حتى على أدق معامل اختبارات الحمض النووي، خاصة عندما يتعلق الأمر بسبر أغوار تأثير التداخلات العرقية في المكان موضوع الدراسة اجتماعياً وثقافياً إلى ما وراء ذلك من التداعيات الديموغرافية بصفة أكثر خصوصية والاقتصادية والسياسية وفي غير ذلك من سائر مجالات الحياة بصفة عامة.

مع مصر، مجدداً، الأمر مضاعف التأثير. فالتداخلات العرقية ليس متعددة فقط وإنما كثيرة وشديدة الاختلاط، وعندما نذهب بالتداعيات لما رواء الجينات حرفياً إلى الآثار العميقة على كافة أصعدة الحياة فإن تأثير الأعراق العديدة المتشابكة يتضاعف أضعافاً كثيرة.

أية قراءة لمختصر عن تاريخ مصر في أي سياق تكشف شدة “التوافد” العرقي إلى مصر على مرّ العصور، مما أفضى بدوره إلى ما نشير إليه من “تداخل” عرقي شديد التعقيد والثراء.

سياحة عابرة في رائعة شوقي “هَمَّتِ الفُلكُ وَاِحتَواها الماءُ .. وَحَداها بِمَن تُقِلُّ الرَجاءُ” تكشف عن توالي ذلك “التوافد” العرقي على مصر وتأثيره عميقاً في حياة المصرين عبر القرون، وذلك بمنأى عن وجهات النظر الشخصية للشاعر العظيم الذي يجسّد هو نفسه مثالاً رائعاً لامتزاج الأعراق في الدماء المصرية بما يؤول في النهاية إلى منتج خالص الهوى المصري.

نظرة إلى أية عينة عشوائية الاختيار من المجتمع المصري تنبئ عن فعل الأعراق الساحر في الشخصية المصرية، ولمزيد من الدقة في تقريب المراد نحيل إلى عينة عشوائية من نجوم المجتمع المصري من شخصياته العامة. على سبيل المثال بطبيعة الحال، انظر واستمع وتحسّس روح عباس العقاد ومحمد هنيدي ويحيى المشد وعبد السلام النابلسي وحنان ترك وأنور السادات وحسين فهمي وإمام العبد ونجيب الريحاني ونجلاء فتحي وإسماعيل ياسين وحافظ إبراهيم وسحر رامي واستيفان روستي وأحمد شوقي وهند رستم وفاروق جعفر ويوسف شاهين وياسمين عبد العزيز ومريم فخر الدين ومحمود شكوكو وربيع ياسين وبشارة واكيم وعبلة كامل ويحيى حقي وفاتن حمامة ونيللي وعبد الرحمن الأبنودي وشويكار وأسامة أنور عكاشة وأحمد زويل ويونس شلبي وماري منيب ويوسف السباعي وأحمد زكي وأنور وجدي ونجوى إبراهيم وعاطف الطيب وتحية كاريوكا وحسن شحاتة ومجدي يعقوب وجميل راتب وعلي الكسار ومنى الشاذلي وإحسان عبد القدوس وأنغام وتوجو مزراحي وأمل دنقل وليلى مراد وجيهان السادات وعبد الحليم حافظ وآثار الحكيم وبرلنتي عبد الحميد وأنيس منصور وسعاد حسني وصالح سليم وطه حسين وزينات صدقي وأحمد الكاس وأمينة رزق وفاروق شوشة وزوزو شكيب وعفاف راضي ومحمد مستجاب وأبو السعود الإبياري وحمادة سلطان ومصطفى أمين وأحمد حلمي وليلى طاهر.

القائمة الطويلة أعلاه مختارة بعشوائية متعمدة، وأرجو أن يجوز التعبير، من حيث مجال العمل والجنس والزمان، والأهم من حيث الملامح وما تتضمنه مما يشي بما نحن بصدده حول تداعيات امتزاج الأعراق في المجتمع المصري.

هذا، ولم تتم في الأسماء السابقة مراعاة ضرورة تأكيد العرق غير المصري في الشخصية المنتقاة على سبيل المثال، فذلك سياق عرضنا له في مقام سابق بأمثلة أشد اختصاراً. بكل هذا في الحسبان، ألا تصدر كل تلك الشخصيات في إبداعها وما يتبدّى من تفاعلاتها عن روح مصرية صميمة؟ ألا تختفي كل تلك التباينات العريضة جداً في الملامح وأنماط العيش ليس بسبب اللسان المصري فحسب وإنما داخل الملامح الفريدة لشخصية وطنية مصرية واحدة؟

بالعودة إلى الحديث عن الأصول المباشرة غير المصرية، وبغض النظر عمّا تشير إليه الأوراق الرسمية من الانتماء، ماذا يتبقى من “جزائرية” وردة و”تونسيّة” بيرم و”سوريّة” فايزة أحمد و”أرمنية” لبلبة و”لبنانية” يوسف شاهين و”تركية” هند رستم ، بل حتى من “نمساوية” استيفان روستي و”إيطالية” توجو مزراحي، ماذا يتبقى من كل تلك الهويات غير المصرية لدى أصحابها سوى بعض الألقاب الدالة على الأصول العرقية أحياناً في خواطر العامة، إضافة بطبيعة الحال إلى خصوصيات الحياة الشخصية التي تتباين لدى كل فرد من أولئك بما يصل أحياناً إلى حدود إنكار أو تجاهل الأصل غير المصري من قبل الفرد نفسه.

وهكذا، فبينما ظلّ العديد من البلدان المجاورة والبعيدة يحتفظ بشخصية وطنية جامعة وبضع شخصيات قومية بينيّة متفرقة، فإن مصر بدت – من بين معظم وربما كل البلدان التي اختلطت فيها الأعراق – كما لو كانت الأبرز في الحفاظ على شخصية وطنية واحدة جامعة، ليس فقط بما يحتوي الشخصيات القومية البينية في المجتمع المصري ويذيبها داخل الشخصية الوطنية الجامعة، وإنما بما يجعل حتى ذوبان الشخصيات والجاليات من الأصول غير المصرية في المجتمع المصري وشخصيته الوطنية الجامعة سلساً ومنقطع النظير.

نرشح لك: أبرزها سيدات أوركسترا العباسي.. 10 مشاهد لفتت الانتباه في موكب المومياوات