معركة 1964 بين الشعراء.. لوجه الأدب أم السياسة؟

طاهر عبد الرحمن

في شهري نوفمبر وديسمبر من عام 1964 شُغل الوسط الثقافي والأدبي في مصر بواحدة من أشهر المعارك الفكرية والأدبية، وقد اشترك فيها كثير من المثقفين والأدباء والشعراء على اختلاف توجهاتهم، ولقد اتخذ البعض فيها موقفا متطرفا لا يقبل الطرف الثاني، والبعض الآخر اتخذ موقفا وسطيا يحاول التوفيق بين طرفي المعركة.

كانت المعركة تدور بين دعاة التجديد في الشعر ومعظمه من اليسار، وبين التيار المحافظ وأغلبيته من اليمين، ومحاولة كل طرف منهما فرض رأيه وإثبات سطوته، وانتهت تلك المعركة بما يمكن تسميته بـ “انتصار مؤقت” للطرف الأول، حتى جاءت الفرصة للطرف الثاني بعد سنوات ليحصل على انتصاره “المؤقت” هو الآخر.

نرشح لك: إحصائية: مصر ضمن الـ10 مراكز الأولى في الدول الأكثر قراءة

لجنة الشعر تطلب الوصاية

بدأت المعركة بتقرير قدمته لجنة الشعر، إحدى لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، إلى رئيسه الدكتور عبد القادر حاتم، تقترح فيه أن يكون لها “نوع من الإشراف على كل ما يتسم بميسم الدولة من وسائل نشر الشعر، فبمثل هذا الإشراف تضمن اللجنة حقها في رعاية الشعر، مسددة له الخطى، محققة له سلامة الخطى”، والمعنى أنها تطلب أن يكون لها وحدها الحق في نشر أو عدم نشر، الشعر في كل المجلات الأدبية التي تصدرها الدولة، ووقتها كانت 5 مجلات، بالإضافة إلى دور النشر الحكومية.

كانت اللجنة في ذلك الوقت تحت رئاسة الشاعر المعروف عزيز أباظة وعضوية كل من أحمد رامي، ومحمود حسن إسماعيل، وصالح جودت وكامل الشناوي وأحمد غنيم، بالإضافة إلى الدكتور زكي نجيب محمود، أستاذ الفلسفة المعروف، وهي كلها أسماء تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ “التيار التقليدي” في مصر، أو بمعنى أدق “اليمين المحافظ”.

وكان من الممكن أن يمر ذلك التقرير بلا ضجة حتى يبت فيه رئيس المجلس الأعلى، لولا أن اللجنة قامت بنشره في مجلة الثقافة الأسبوعية التابعة للمجلس، وهنا بدأت المعركة.

من يسيطر على مجلة الشعر؟

في بداية ذلك العام – 1964 أصدرت الدولة أو أعادت إصدار عددا من المجلات الثقافية والأدبية، منها القصة والثقافة والرسالة والشعر، ومع انفراجة ديمقراطية سمحت الدولة لكثير من المثقفين على اليسار العمل والنشر في الصحافة وفي الإصدارات التابعة لها.

ومن بين تلك الإصدارات كانت مجلة الشعر، تحت رئاسة الدكتور عبد القادر القط، التي توسعت كثيرا في نشر قصائد بعض الشعراء الشباب “المجددين” والثائرين على الشكل القديم للقصيدة.

وبحسب ما يرويه الدكتور غالي شكري، في كتابه “من الأرشيف السري للثقافة المصرية”، وكان وقتها مديرا لتحرير المجلة، أنه وبرغم النجاح الكبير الذي لاقته المجلة بالقياس إلى بقية المجلات، أن الدكتور القط طلب منه التقليل من النشر للأسماء اليسارية وللشعراء الجدد، وكان تلك -في رأيه- أولى محاولات “اليمين” السيطرة على المجلة.

بالطبع لم يستسلم التيار اليساري والشعراء الجدد لفقد المنبر المتاح لهم لنشر انتاجهم الأدبي والثقافي، ورغم كل الضغوط والمؤامرات، مستغلا ما منحته له الدولة، ومن ناحية أخرى ظل اليمين المحافظ والشعراء المنتمين له يحاولون وقف المد اليساري، طوال ذلك العام.

يوسف السباعي يدخل على الخط

في ذلك الوقت كان الأديب المعروف يوسف السباعي سكرتيرا لجمعية الأدباء “نواة اتحاد الكتاب فيما بعد” وكانت له من قبل في منتصف الخمسينيات معركة مع بعض دعاة التجديد في الأدب، ولقد وجد في معركة الشعر فرصة لكي يفرض سطوته وسطوة التيار المحافظ، فدعا إلى عقد جمعية عمومية غير عادية للجمعية لمساندة لجنة الشعر وتقريرها، وعلى الرغم من أن قرارات الجمعية جاءت لتؤكد وقوفها إلى جانب حرية النشر بصفة عامة ونفت تماما أية رغبة للجنة في الحجر على أي إنتاج أدبي، وهو تناقض لا يعني سوى تأكيد قوة اليمين المحافظ.

الأهرام تقود الهجوم

فور نشر ذلك التقرير انتفض الشعراء الجدد واليسار كله للهجوم عليه وعلى اللجنة التي أصدرته، وكانت صفحة الرأي بجريدة الأهرام والمشرف عليها في ذلك الوقت هو لطفي الخولي، أول من أفردت مساحات واسعة للرد، ونشرت عدة مقالات عنيفة منددة وساخرة في نفس الوقت منه ومنها.

معركة صلاح عبد الصبور الشخصية

في عدد يوم الجمعة، 27 نوفمبر 1964، من جريدة الأهرام كتب الشاعر صلاح عبد الصبور مقالا مطولا تحت عنوان: “بين الشعراء ولجنة الشعر” شرح فيه قصة التقرير الذي فجر الأزمة.

يقول “عبد الصبور” أن القضية قديمة وتعود إلى وقت رئاسة الكاتب الكبير عباس محمود العقاد لتلك اللجنة، وكان العقاد “كارها” للشعر الجديد ويراه غير جدير بالاهتمام أساسا، ولكنه كان يكتفي بإبعاده واستبعاده من كل الفعاليات التي ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وكل الإصدارات التي يشرف عليها، وهو وضع – كما يقول عبد الصبور – قبله الشعراء الجدد واكتفوا بالتواصل والوصول للقارئ العام بوسائل نشر خاصة بعيدا عن “الدولة”.

لكن بعد وفاة العقاد وعندما آلت رئاسة اللجنة إلى الشاعر عزيز أباظة فإنه ربما -كما يسخر عبد الصبور- استكتروا على الشعراء الجدد القبول الذي حصلوا عليه في الوسط الأدبي، وهنا كان لزاما عليهم أن يعملوا على منع وصول ذلك الشعر إلى القارىء بأية وسيلة.

ويؤكد الشاعر الكبير أن خطأ اللجنة الأكبر هو الإقدام على نشر ذلك التقرير في مجلة الثقافة، ولو أنهم اكتفوا بتقديمه إلى رئيس المجلس لكان الأمر هينا وبسيطا، لا يعدو أن يكون أمرا من الأمور الإدارية في هيئة رسمية حكومية، ولكن النشر أفصح عن نواياهم وخططهم، وهنا كان لزاما على المثقفين والأدباء والشعراء التصدي لتلك المحاولة.

ثم انتقل الشاعر إلى مناقشة ما جاء في التقرير بتفصيل وإسهاب، وكان مجمل ما أورده هو أنه تقرير يقف ضد التطور والتحديث في الأدب العربي كله، وليس الشعر فقط، ويدعو إلى الجمود الفكري بشكل لا هدف له إلا وقف عملية التجديد التي تواكب النهضة الاقتصادية والاشتراكية التي تقوم بها الدولة.

لا يخفى على أحد -بالطبع- أن صلاح عبد الصبور كان واحدا من أهم وأشهر الشعراء المجددين في ذلك الوقت، وربما فإنه اعتبر الموضوع مسألة شخصية أكثر منها عامة، لأنها كانت تهدد مكانته كشاعر وتحاول فرض رقابة على إبداعه وإبداع زملائه.

طه حسين يتحدث عن “العاصفة”

في مقاله الأسبوعي بجريدة أخبار اليوم، عدد 19 ديسمبر، كتب عميد الأدب العربي، طه حسين، تحت عنوان: عاصفة، يتعرض لما أثارته الصحف و”جماعة من الأدباء” عن ذلك التقرير، واصفا ما حدث كله بأنه مجرد “عاصفة هوجاء”، وأنه لا صحة لما أثير عن نية اللجنة منع نشر أو فرض رقابة على الشعر الجديد، وإنما كل ما طلبته هو إفساح المجال في مجلة الشعر لنشر الشعر التقليدي جنبا إلى جنب مع الشعر الجديد، وهذا هو كل الموضوع.

ويرى طه حسين أن ذلك مطلبا عادلا من اللجنة ومن الشعراء التقليديين، ويؤكد أنه ليس من “خصوم الشعر الحر ولكن من حق الشعراء المقلدين أن يدفعوا عن أنفسهم الجور مهما كان مصدره”.

ثم عرض في بقية المقال لبعض المعارك القديمة التي دارت بين الشعراء في مسألة تجديد الشعر على مر العصور.

أعضاء اللجنة يدافعون عن أنفسهم

وكان لا بد لأعضاء اللجنة أن يدافعوا عن أنفسهم ويعرضوا رأيهم وأن يشرحوا موقفهم في كل ما أثير، وهو ما فعله اثنان منهم، الأول الشاعر عزيز أباظة، رئيس اللجنة، والثاني الدكتور زكي نجيب محمود، كاتب ذلك التقرير.

كتب عزيز أباظة مقالا قصيرا جدا، وصفه بأنه “خطاب مفتوح إلى صفحة الرأي بجريدة الأهرام”، يرد فيه على ما نشر فيها من مقالات وآراء.

اعتبر “أباظة” أن كل ما نشر لا سند له من الواقع، فلم تطلب اللجنة الحجر على المحاولات الشعرية الحديثة، وإنما كل ما طلبته -وهو أضعف الإيمان- أن يفسح المجال للشعر العربي الأصيل، في مجلة تصدر عن هيئة رسمية في الدولة.

وأضاف أن الشعر الجديد ما زال في طور التجريب وهو لا ينكر حق أحد في التجريب، ولكن من الأولى أن يخصص الجزء الأقل في المجلة لذلك الجديد، وأن يخصص الجزء الأكبر لـ “الصور التي اصطفاها تاريخ الأدب العربي على مر القرون الطوال”.

وجاء الرد الثاني من خلال حوار قصير أجراه باب الأدب في جريدة الأخبار، عدد 27 نوفمبر، والتي كان يحرره أنيس منصور.

اعتبر كاتب الحوار “ش. ش كما ظهر التوقيع تحته” أن ذلك التقرير يعتبر وثيقة أدبية فلسفية من الطراز الأول، كتبها الدكتور زكي بمنطق سليم وعبارة مشرقة.

وفي الحوار أكد الدكتور أنه محايد في هذه القضية، ولكن بصفته عضوا في اللجنة فإنه ملتزم بما يصدر عنها من قرارات، وأن مجلة الشعر هي الوحيدة التي لا تخضع لإشراف المجلس الأعلى للفنون والآداب، على عكس بقية إصدارات المجلس، وأنها هي التي تتعنت وتعادي الشعر التقليدي فلا تنشر منه شيئا، ووصل الأمر إلى حد أن القائمين على تحريرها رفضوا نشر قصيدتين للشاعر الكبير علي الجندي، ودعا كل المعترضين والساخطين على التقرير أن يقوموا بتغيير القوانين واللوائح أولا قبل اتهام اللجنة، وأكثر من ذلك دعا الشعراء الجدد إلى الاتفاق على مدرسة شعرية واحدة ومحددة قبل أن يهاجموا الآخرين.

غضب إحسان عبد القدوس

في ذلك الوقت كتب الكاتب والأديب إحسان عبد القدوس، مقالا في مجلة روزاليوسف عبر فيه عن غضبه وسخطه للمثقفين الذين عارضوا موقف لجنة الشعر، وذلك -في رأيه- لا يجوز لأنها “هيئة رسمية”، واعتبر أن ذلك الموقف “تمردا خطيرا”، وكتب يقول أن “إن المعركة ليست معركة تجديد وتقليد بل هي خلافات سياسية في المقام الأول وأن كل منهم يفسر الميثاق بحسب عقيدته الخاصة في محاولة للاستيلاء على الثورة لصالحه، ولا مخرج من كل هذا إلا بإصدار تفسير موحد للميثاق حتى تكون لدينا عقيدة موحدة للمثقفين”.

وهي الدعوة التي سخر منها الكاتب الصحفي اليساري صلاح حافظ، لأن اختلاف المثقفين أمر طبيعي، فكل واحد منهم شكل وعيه بطريقته الخاصة، والمطلوب ليس “وحدة المثقفين” لأنها لا تحدث إلى بالكف عن الاختلاف وإنما “وحدة الاشتراكيين” في المجتمع المصري وهي لا تحدث إلا بممارسة الاختلاف.

تأجيل المعركة عشر سنوات

لم تنجح لجنة الشعر ولا الشعراء المقلدون في ذلك الوقت -منتصف الستينيات- في معركتهم مع الشعراء المجددين، ولكنهم بطبيعة الحال لم يستسلموا وظلوا على استحياء يحاولون، حتى جاءت الفرصة بعد ذلك بعشر سنوات.

في كتابه “من الأرشيف السري للثقافة المصرية” يرصد الدكتور غالي شكري تلك المحاولات، حتى جاءت الفرصة عام 1975 عندما تولى يوسف السباعي وزارة الثقافة، ونجح في الإطاحة بكل “الطاقم اليساري” الذي كان يدير معظم إصدارات الوزارة، والغريب أن واحدا مثل الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور كان واحدا من الذين ساعدوه على ذلك، وهو ما يثبت أن المعركة لم تكن تجري تحت شعارات “القديم والجديد” بل كانت معركة بين اليمين واليسار في الوسط الثقافي والأدبي المصري.