البودكاست.. هل يمكن أن يتحول لفرصة حقيقية لتطوير الصحافة المصرية؟

رباب طلعت

لا شك في إن الصحافة الإلكترونية المصرية بل والعالمية تواجه تراجعًا كبيرًا خلال السنوات القليلة الماضية من حيث انجذاب الجمهور لها ومتابعتها، بسبب انتشار الأخبار الأسرع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة لتفضيل المحتوى المرئي عن المقروء خاصة في الوطن العربي، ما دفع الكثير من المواقع الكبرى لإيجاد حلول بديلة مثل الاهتمام بإنتاج محتوى فيديو أكثر تطورًا بالإضافة لتقليص المعلومات على هيئة إنفوجراف وتصاميم على السوشيال ميديا وما إلى ذلك، إلا أنها تضيع فرصة حقيقية أثبتت نجاحها وشعبيتها في كثير من دول العالم، منذ بدايتها عام 2004 وإلى الآن، وبدأت في الانطلاق عربيًا خلال العامين الماضيين وهي “البودكاست الإخباري”.


تأثير الاهتمام العربي بالمحتوى المرئي على انتشار البودكاست


من المفارقات أن أول من استخدم كلمة “podcast – بودكاست” هو أحد صحفيي صحيفة “الجارديان” البريطانية، ويدعى بان هامرسلي عام 2004، حيث إنه أشار في إحدى مقالاته أنه في صدد إطلاق اكتشاف جديد في عالم الإعلام وقرر تسميته بهذا الاسم حيث استوحى (pod) من جهاز الـ(ipod) الذي أطلقته شركة آبل، ويتيح لمستخدميه الاستماع إلى الأغاني بدون إنترنت، و(cast) وترجمتها البث، أي أن الخدمة التي سيقدمها هي بث محتوى يمكن تحميله على الأجهزة المحمولة والاستماع له في أي وقت.

انتشرت تجربة البودكاست في أمريكا والدول الأجنبية على نحو سريع، حيث إنها نجحت في تقديم خدمة خبرية وقصصية وثقافية تلمس اهتمامات مستمعيها، ويمكنهم تحميلها والاستماع لها في أي وقت بالتزامن مع أي نشاط آخر يقومون به، دون الحاجة للتفرغ له على عكس المحتوى المرئي، وقد جاءت أهميته عالميًا من تلك النقطة تحديدًا، على عكس العالم العربي الذي يفضل جمهوره المحتوى المرئي، مما يفسر سبب انتشار البلوجرز واليوتيوبرز ومؤخرًا التيكتوكر عن مقدمي محتوى البودكاست، على الرغم من احتياج ذلك المحتوى للتفرغ لمشاهدته، ولكن يظل هناك فصيل يفضل الاستماع إلى محتوى ما سواء كان الراديو أو قائمة أغاني وغيرها بجانب قيامه بعمل ما لا يحتاج إلى التركيز مثل القيادة، أو أثناء السفر، وغيرهما، وذلك يتطلب إما وجود بث قوي للقناة الإذاعية في محيطه، أو خدمة إنترنت، وهو ما لا يحتاجهما البودكاست حيث يمكن تحميله والاستماع له في أي مكان وأي وقت بدون الحاجة لشبكة إنترنت أو FM.

البودكاست.. مستقبل المحتوى الصوتي

 

اهتمام المشاهد العربي عامة وخاصة المصري بالمحتوى المرئي تسبب بالطبع على تأخر انتشار البودكاست عربيًا سواء كان ذلك بسبب عدم وجود الدعم المادي لإنتاج مثل ذلك المحتوى، أو لتجاهل المواقع الإلكترونية التي تقدم محتوى صحفي لمثل تلك الأداة التحريرية الهامة في تطوير محتواها، والاهتمام بشكل أكبر بالصحافة التفاعلية ذات المحتوى المرئي، حتى إن البعض أطلق قنوات كاملة تقدم محتوى إخباري عبر منصاتها وهو الأمر الذي يحتاج لميزانية كبيرة على عكس خاصية البودكاست، من منطلق تقديم المحتوى الذي يريده المستخدم -الكلمة الأكثر دقة في وصف القارئ للمواقع الإلكترونية- ولكن ماذا لو كان المستخدم يريد المحتوى المسموع ولكنه لم يجده؟

للإجابة على تلك النقطة نشير إلى آخر استطلاع أجراه موقع “بودكاست بالعربي” عام 2019 لدعم المحتوى الصوتي العربي، وشارك فيه 661 مشاركاً، فإنه تتراوح أعمار مستمعي البودكاست العرب بين 18 و34 عاما، وبنسبة بين الذكور تصل إلى (50.8%) والإناث (49.2%)، وبنسبة 65% كانوا من الحاصلين على شهادات البكالوريوس وما أعلى، كما أشارت الدراسة أن أغلب المستمعين يفضلوا الاستماع للمحتوى أثناء القيادة أو استخدام المواصلات العامة، واللافت للنظر هو تصدر المملكة العربية السعودية في عدد مستخدمي البرودكاست بنسبة 56% و5% فقط من مصر،(للاطلاع على الاستطلاع كامل من هنا)، وفي رسم بياني عن تطور عدد برامج البودكاست في الوطن العربي، ظهر تزايد الاهتمام به حيث سجل الموقع برنامج بودكاست واحد عام 2006 مقابل 421 برنامجًا في 2020.

مع دراسة الإحصائية السابقة يجب الإشارة إلى تزايد اهتمام صناع البودكاست في المملكة العربية السعودية والأردن على الأخص عربيًا بإثراء المحتوى وزيادة عدد قنوات البودكاست والبرامج، بالمقارنة في مصر، حيث إن التجارب المصرية معدودة، ومن الممكن أن يكون ذلك سببًا في تراجع الاهتمام به مصريًا، بالإضافة إلى أنه بالنظر في إحصائيات التصنيفات نجد تصدر للبرامج الاجتماعية والحوارية ومن ثم التعليم والثقافة عن الأخبار والإعلام، ويجب الإشارة هنا إلى أن التصنيف الثقافي هو الأبرز في التجربة المصرية، مع التراجع الكبير في تقديم المحتوى الإخباري بها، مما يشير إلى أهمية الالتفات لها من قبل المواقع الإخبارية ليس فقط لإثراء المحتوى بل أيضًا كفرصة لزيادة متابعيهم.

نرشح لك: للمستمعين وصناع المحتوى.. كيف نشأ وتطور البودكاست؟


كيف يمكن تقديم المحتوى الصحفي في بودكاست؟


التحرير الصحفي لا يقتصر على المحتوى المكتوب، وإن كان ذلك هو الحاصل في الصحافة الإلكترونية المصرية، بجانب التجارب المرئية البسيطة المتواجدة على الساحة، وذلك سبب أدعى للاتجاه لتحويل المحتوى الصحفي إلى مسموع عن طريق البودكاست، من باب تطوير شكل الصحافة المعاصر بما يتناسب مع الاهتمامات المختلفة للجمهور، فلم الاهتمام بالفصيل الذي يفضل الصورة فقط وإغفال قيمة المحتوى الصوتي، ليس فقط لمن يفضلونه بل من الممكن أن تكون بديلًا ممتازًا لضعاف النظر أو فاقديه، أو ممن لا يجيدون القراءة والكتابة، بجانب المنشغلين على مدار اليوم ممن لا يتسنى لهم وقتًا لفتح الموقع وتصفح الأخبار والقصص الصحفية والحوارات الهامة، مما يضيع الكثير من فرص وصول المحتوى المقدم لأكبر عدد من المستخدمين باختلاف اهتماماتهم.

فعلى سبيل المثال يمكن تقديم موجز بأهم الأخبار المسموعة على مدار اليوم في الصباح أو المساء، كخدمة موازية لخدمة “النيوز ليتر” التي تقدمها أغلب المواقع حاليًا للقراء، أو استخدام الصورة الأقرب لمحبي الاستماع خاصة في  الوطن العربي وتحويل القصص الصحفية “الفيتشرات” المنشورة على الموقع لقصص مسموعة، فتلك وسيلة هامة لإيصال مثل تلك الأعمال خاصة في مصر الذي يفضل أبنائها “فن الحكي” وإلقاء القصص من بداية القصص الشعبية والراوي قديمًا ومن ثم اعتماد برامج إذاعية شهيرة على تقديم الأخبار والحوادث بشكل قصصي، ومن الممكن إذاعة الحوارات المختلفة خاصة الفنية المسجلة عبر الهاتف بين المحرر والمتحدث بجانب نشرها كاتبيًا، كأفكار بسيطة وغير مكلفة للمواقع، كما يمكن خوض تجارب أكثر تطورًا بعمل برامج أسبوعية عن كواليس التحقيقات الصحفية الهامة المنشورة على الموقع، أو متابعة الترند الأسبوعي، أو مراجعات الأفلام، أوغيرها من التجارب الناجحة في البودكاست المستقل، فالأفكار كثيرة ومن السهل تنفيذها وتجربتها وإن لم تنجح.

بالإضافة إلى أن المواقع من الممكن أن تستفيد من البودكاست في تجارب شبيهة بتجربة بودكاست إليسا على أنغامي مؤخرًا، والتي أتاحت للفنانة الفرصة في الحديث عن نفسها دون وجود محاور يقاطعها ويقتصر تصريحاتها على إجابات محددة على أسئلة محددة، ما أتاح الفرصة للفنانة للتعريف عن نفسها كما تريد هي لا كما يريد المحاول، فظهرت الكثير من جوانب حياتها التي لم يكن للجمهور علم بها، خاصة وأنها تحكيها دون اهتمام بشكلها أمام الكاميرات ما يعطي للفنان أريحية أكبر، ومساحة أكبر للفضفضة والصدق. وبتكرار تلك التجربة في المواقع الصحفية الكبيرة مع مشاهير الفن والرياضة والإعلام وغيرهم، ستبدأ مرحلة جديدة من الحوارات.

يجدر الإشارة هنا إلى أن البودكاست أساس نجاحه عالميًا هو اعتماده في الأساس على المحتوى، وهو ما تحتاجه الصحافة المصرية في الوقت الراهن مع الاتهامات الكثيرة الموجهة لها بالتراجع في تقديم المحتوى الهادف أو عدم تناولهم لمواضيع ذات قيمة في نهم الجميع في البحث عن الترافيك وتتبع الترند لتحقيق أرباح من زيادة عدد الزيارات على الموقع، فالبودكاست فرصة ذهبية لإثراء المحتوى المتخصص لأن مستخدمه يبحث عمن يقدم له مواضيع ترتبط باهتماماته بشكل راقي.

تجارب بودكاست صحفية ناجحة


لعلها ليست صدفة بأن مكتشف البودكاست صحفي، فالبودكاست مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصحافة وأقسامها وتخصصاتها، والنجاحات الكبيرة في مجالها كانت من نصيب الصحافة بشكل أو بآخر، فمثلًا عربيًا كان من رواد التجربة الصحفي السعودي عبدالرحمن أبو مالح الذي أطلق “بودكاست قهوة” الأشهر عربيًا الذي وصل عدد متابعيه 12 مليونًا في 2019 كآخر إحصائية منشورة عنه، كما كان لـBBC الفضل في تدشين أول تجربة بودكاست في الوطن العربي، ومن ثم سكاي نيوز عربية وCNN وغيرهم، ما تسبب في انتشار الخدمة ومعرفة الكثير من القراء بها، وعلى الرغم من التنوع الكبير الذي تقدم به تلك المواقع خدمتها إلى أنه لا يزال ينحصر على عدد صغير من المواقع الإلكترونية الأجنبية الناطقة بالعربية أو العربية، ما يتيح الفرصة لدخول المواقع المصرية المنافسة.

ومن أشهر أمثلة البودكاست الصحفية  كان بودكاست “الخلافة” الذي وضع نيويورك تايمز في مأزق، وخسرت العديد من الجوائز بسببه، حيث اعتمدت حلقاته على شهادة مواطن كندي ادعى أنه انضم لتنظيم داعش، وضلل المحررة والصحيفة بقصص وهمية اختلقها من نفسه واعتذرت الصحفية عن ذلك، بعد الانتشار الواسع والكبير الذي حققته، حيث كان لتلك السلسلة صدىً واسع عالميًا.


البودكاست.. مورد مالي محتمل

شهد سوق البودكاست تحركات كبيرة بالملايين خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة مع تنافس كبار الشركات على تطويره وتضمينه في خدماتهم، وفي إحصائية عام 2017، فقد نجح في إدخال 200 مليون دولار إلى سوق الإعلانات في أمريكا، زادت بقيمة 500 مليون دولار خلال السنوات التالية لها، أي أنه مجال استثمار هام ومن الممكن اعتباره منقذ لبعض المؤسسات الصحفية المتعثرة.

فمثلًا نيويورك تايم لها أيضًا تجربة شهيرة في البودكاست وهي “الحب العصري”، الذي أدر أرباحًا طائلة على المؤسسة، ما دفعها للاستثمار فيه والاستمرار في تقديمه عدة سنوات، وذلك من خلال تضمين فواصل إعلانية وسط محتوى الحلقات.

كما يدفع الكثير من المعلنين لأصحاب محتوى البودكاست لترشيح منتجاتهم، وذلك يحدث مثلًا في المحتوى المتخصص في التكنولوجيا أو السيارات أو حتى الثقافة والكتب الصوتية، وبالطبع في مراجعات الأفلام والمسلسلات، ما يعني أنه فرصة ضائعة لزيادة دخل المواقع الإلكترونية بأقل التكاليف.

نرشح لك: للمبتدئين.. نصائح لتقديم محتواك على الـ”بودكاست”