الموظف نجيب محفوظ.. كيف تصرف في أزمة الصحافة ومدير الرقابة؟

طاهر عبد الرحمن

بدأ نجيب محفوظ حياته الوظيفية في عام 1938 – كسكرتير برلماني في وزارة الأوقاف – وأنهاها عام 1971 – كمستشار لوزير الثقافة، وعلى الرغم من شهرته ككاتب وأديب إلا أنه ظل متمسك بالوظيفة حتى سن المعاش، ومن طرائف ما يحكى عنه أنه رفض طلب محمد حسنين هيكل الانضمام إلى الأهرام – وقت رئاسته الأسطورية لتحريره – وطلب منه أن يمهله إلى أن يصل إلى سن المعاش – وهو ما كان.

وبشهادة كل من اتصلوا به وتعاملوا معه ك”موظف” فإنه كان موظفا مثاليا، وربما إن وصف الكاتب الكبير الراحل، يحيى حقي، هو أصدق وأدق وصف بحقه حيث قال: “ليست في نجيب محفوظ ذرة من طبائع الموظف، لكنه كان طول الوقت موظفا مثاليا”.

نرشح لك: محمد شعير: نجيب محفوظ كان عنيدا.. والنقاد تجاهلوا روايته 25 عاما

ومهما كان من دوافع نجيب محفوظ الحقيقية للاحتفاظ بالوظيفة، سواء دوافع مادية أو حتى فنية وأدبية، فإن لم يحدث لمدة أكثر من ثلاثين عاما قضاها فيها أنه قام بأي موقف علني – أو خفي – ينم عن معارضة نقد للمؤسسات التي عمل فيها، أو للمديرين – والوزراء – الذين عمل معهم.

وكان آخر منصب تولاه محفوظ – قبيل بلوغه سن المعاش – في مسيرته الوظيفية هو رئيس مجلس إدارة مؤسسة السينما، وتواكب ظل المنصب مع مقدمات ونتائج نكسة يونيو 1967.

في أعقاب تلك النكسة قررت “الدولة” – بالتوازي مع محاولات إعادة بناء الجيش – أن تخفف من بعض القيود التي كانت تفرضها على المجتمع قبلها، وكان أهم قرارين هما: السماح باستيراد بعض السلع الاستهلاكية (التي كانت تُعتبر سلعا رفاهية لا لزوم لها) وأيضا تخفيف بعض القيود والمحاذير الرقابية على السينما، سواء الأفلام المصرية أو الأجنبية.

من هذا المنطلق وافق الدكتور ثروت عكاشة – وزير الثقافة – على سفر مدير الرقابة على المصنفات الفنية وقتها وهو الناقد السينمائي المعروف مصطفى درويش إلى الخارج كي يشاهد ويختار الأفلام التي ستعرض في موسم شتاء 1967.

كان المعتاد أن تأتي الأفلام – عن طريق شركات التوزيع – إلى الرقابة لتشاهدها وتوافق – أو ترفض – عليها، وكان سبب ذلك التغيير في نظام العمل، هو رغبة الوزارة والوزير في التعجيل للحصول على الأفلام وبطريق مباشر.

وبالفعل سافر مصطفى درويش ومعه يوسف صلاح الدين، رئيس مجلس إدارة شركة التوزيع، إلى أوروبا، ولكن الذي حدث هو أن الرحلة طالت عما هو مسموح به، لدرجة أن الوزير ثروت عكاشة كان يطلب من السفارات المصرية في العواصم التي تواجد فيها مدير الرقابة أن تخطره بضرورة عودته للقاهرة بسرعة.

وعرف الصحفيون – أو بعضهم – موقف الوزير من مرؤوسه، فكتبوا ينتقدون ذلك، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي كانت مصر تعيشها بعد النكسة، وحاجتها الملحة إلى العملة الصعبة.

من بين الذين كتبوا عن الموضوع كان موسى صبري، حيث وجه نقدا حادا (في فقرتين اثنتين) لمؤسسة السينما ومدير الرقابة في يومياته بجريدة الأخبار يوم 1 أكتوبر 1967.

يوميات موسى صبري، جريدة أخبار اليوم، 1 أكتوبر 1967

 

يوميات موسى صبري، جريدة أخبار اليوم، 1 أكتوبر 1967


ما كتبه صبري – وغيره ضد رحلة مدير الرقابة – دفع نجيب محفوظ – وهو هنا الموظف الكبير رئيس مجلس إدارة مؤسسة السينما وليس الكاتب الروائي الكبير المعروف – أن يكتب ردا يدافع فيه عن المؤسسة التي يرأسها، وعن موظف كبير وزميل له من الهجوم عليه ومن “الاستياء” الذي أبداه وزير الثقافة ضده، وهو ما حدث في عدد يوم 15 أكتوبر، وخصص له موسى صبري كامل يومياته بجريدة الأخبار يومها.

نرشح لك: عبد الناصر في ميزان نجيب محفوظ


الرسالة كانت من جزءين: الأول يشرح فيه محفوظ خطة مؤسسته للإنتاج السينمائي (في ظل ظروف التقشف المالي بعد نكسة يونيو) والجزء الثاني كان دفاعا عن مدير الرقابة.

كتب محفوظ يقول: “وأما ما يختص بالأستاذ مدير الرقابة ورحلته فقد أدى بها للمؤسسة و”للذوق العام” خدمة تستحق التقدير والشكر، وسوف ترون بأنفسكم الأفلام التي اتفق على استيرادها، وسوف أترك الحكم لكم”.

 

نجيب محفوظ، جريدة الأخبار، 15 أكتوبر.

ويشرح “السيد رئيس مجلس إدارة مؤسسة السينما، وهو في نفس الوقت كان مديرا سابقا للرقابة: “ولا أظن أن مهمته كانت من البساطة بحيث تتم في أيام أو بضعة أسابيع، فقد كان عليه أن يشاهد ما يقارب المائتي فيلم، وأن يستوعبها جميعا ليختار منها الأصلح والأنسب، فإذا تذكرنا أن الفيلم الواحد يستغرق الساعتين في المشاهدة، ولا أعتقد أن السيد المدير قد فرط في وقته أو استباح لنفسه ما لا يحق”.

 

نجيب محفوظ، جريدة الأخبار، 15 أكتوبر.

في رده على تلك الرسالة ينسب موسى صبري دفاع نجيب محفوظ عن مدير الرقابة إلى “الشهامة والمروءة”، وهي صفات اشتهر بها الكاتب الكبير، لكن من ناحية أخرى – إذا نظرنا إلى موقفه بالنسبة لموقعه ك”موظف كبير” في وزارة الثقافة (وليس كاتب كبير) – أن موقفه ذلك، وتطوعه بكتابة رسالة علنية تنشر في إحدى الصحف الكبرى في مصر، كان موقفا “شجاعا” نادرا منه لم يسمع به أحد من قبل، حيث كان موظفا مثاليا طول خدمته لم يثر أي مشكلة في أي موقع عمل فيه، سواء بالسلب أو بالإيجاب، حتى لو لم تكن فيه “ذرة من طبائع الموظف” – كما وصفه بدقة يحيى حقي في يوم من الأيام!

الناقد السينمائي مصطفى درويش

 

 

موسى صبري