أحداث واشنطن.. الصحافة تكشف الانقسامات السياسية

محمد إسماعيل الحلواني

انتقد الكاتب الصحفي الأسترالي كريستوفر وارين، الإعلاميين الأمريكيين المصفقين للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، قائلا إنهم باتوا يبحثون عن شخص آخر يلقون باللائمة عليه وهم يحسبون حساب الوحش الذي ساعدوا في خلقه، وذلك في أعقاب اقتحام مقر السلطة التشريعية وانتشار مشاهد عنف صادمة منذ الأربعاء الماضي من العاصمة واشنطن؛ قلعة الديمقراطية في العالم المعاصر.

 

تبادل الاتهامات بين الإعلام الليبرالي والإعلام اليميني

من شبكة فوكس، الموالية للحزب الجمهوري، خرج الصحفي والمذيع “تاكر كارلسون” على الشاشة يشير بأصابع الاتهام في أحداث اقتحام الكابيتول إلى جهات غير معلومة، وقال موجهًا خطابه لترامب: “هذا ليس خطأك”، وقال لمشاهديه الذين حزنوا على ترامب: “هذا خطأهم”، وبالتالي انتقد وارين هذا الأداء الإعلامي البائس واستخدام زميله “كارلسون” الضمير المجهل “هم”.

 

نرشح لك: كيف تعاملت وسائل الإعلام الأمريكية مع حادث اقتحام الكابيتول؟


يرجح كاتب المقال الأسترالي أن الضمير “هم” ربما يشير إلى وسائل الإعلام الليبرالية واليسارية، التي أدارت ظهرها إلى ترامب – أو  كما قال “ب. كيلميد”، مقدم البرامج على شاشة فوكس “لم يقبلوا أبدًا شرعية رئاسة ترامب منذ بدأت وحتى يناير 2021”.

إعلام مصاب بجنون العظمة في المعسكرين

انتقدت صحيفة Crikey Daily شبكة فوكس التي تملقت دونالد ترامب على مدار 4 سنوات لكي تحصل على أعداد قياسية من المشاهدين وأرقام قياسية من الأرباح.

أما صحيفة The Age، التي تصدر في ملبورن، فقد اتهمت  الإعلام الأمريكي المصاب بجنون العظمة بإصابة النقاش العام في أمريكا بحالة تسمم. 

قالت الصحيفة إن المسؤولية الرئيسية عن اقتحام الكابيتول تقع بلا شك على عاتق الرئيس دونالد ترامب وأنصاره، ولكن ظهور جنون العظمة عبر وسائل الإعلام الأمريكية اليمينية لعب أيضًا دورًا مسمومًا.

أثارت وسائل الإعلام الأمريكية اليمينية حشود المشاغبين الذين اعتنقوا ادعاءات ترامب الكاذبة بأن الانتخابات قد سُرقت وأنه يمكن قلب النتيجة لصالحه عن طريق اقتحام الكونجرس. ونقش المشاغبون عبارة “اقتلوا الإعلام” على باب مبنى الكابيتول الأمريكي بعد أن قام أنصار ترامب بأعمال شغب.

على النقيض من ذلك، قام المشاغبون بشتم الصحفيين من المؤسسات الإعلامية التي تمثل “النخبة” الرئيسية وزعموا أن الإعلام الليبرالي المخالف لترامب جزء من مؤامرة لخداع الجمهور وتنصيب جو بايدن. وتعرض صحفيون من وسائل الإعلام الرئيسية أثناء تغطية الأحداث للتهديد والمضايقة، وحُطمت معداتهم.

ورصد المراقبون حربًا وانشقاقات بين وسائل الإعلام اليمينية العنيفة وما يسميه البعض وسائل الإعلام السائدة التي تهيمن عليها القيم “الليبرالية”، وهذه الانشاقاقات تكمن وراء الكثير من السياسات المثيرة للانقسام في حقبة ترامب.

الفئران تهرب من سفينة ترامب الغارقة

وصل ترامب إلى السلطة جزئيًا بفضل الدعم الذي قدمته قناة فوكس نيوز التي يقودها روبرت مردوخ. في الآونة الأخيرة، وانضمت مصادر إخبارية أخرى مثل شبكات “بريتبارت – Breitbart” و”وان أمريكا – OneAmerica” الإخبارية إلى صف فوكس واتخذتا مواقف أكثر تطرفاً – خاصة فيما يتعلق بالسياسات العرقية وملف العنصرية والتغير المناخي ورفض المهاجرين. وشارك الإعلام اليميني في تقويض استجابة حكومة الولايات المتحدة لجائحة كورونا التي روجوا لفكرة إنها “ليست سوى خدعة”.

لكن هذا “النظام البيئي الإعلامي”، كما أسماه الرئيس السابق باراك أوباما – والذي يشمل الشركات الإعلامية نفسها ومجموعة من السياسيين المرتبطين بها – لعب دورًا حاسمًا بشكل خاص منذ انتخابات 3 نوفمبر من خلال إخبار عشرات الملايين من المشاهدين والقراء كذبًا  بأن مرشحهم ترامب لم يخسر.

لقد روجوا لـ”رواية خيالية” وادعوا أن وسائل الإعلام الليبرالية جزء من مؤامرة النخبة. وتعتبر مزاعم المؤامرة عنصرًا أساسيًا تقريبًا في “جنون العظمة السائد في السياسة والإعلام الأمريكيين”، على حد تعبير الأكاديمي الأمريكي الراحل “ريتشارد هوفستادر”.

وبدلاً من قبول حقيقة أن الواقع ضدهم، فإن اليمينيين الذين لديهم شعور بالاستحقاق أو المظالم اخترعوا عدوًا شيطانيًا ليلقوا باللوم عليه.

تقوم وسائل الإعلام اليمينية باستمرار بكشف القناع عن هذه النخبة. للقيام بذلك بشكل معقول، يجب أن يتظاهروا بأنهم في الواقع صحفيون. وقال هوفستادر إن السياسات المصابة بجنون العظمة تتميز بـ “السعي البطولي لإثبات أن ما لا يصدق هو الشيء الوحيد الذي يمكن تصديقه”.

في الأشهر القليلة الماضية، كانت برامج الإعلام اليميني مليئة بالهراء حول بطاقات الاقتراع المسروقة، واختفاء آلات التصويت، والفساد من قبل عشرات المسؤولين الجمهوريين ضد مصالح حزبهم. وكتبت وسائل الإعلام اليمينية القصص وقام ترامب وأصدقاؤه بإعادة تغريدها وتضخيمها في خطب لاذعة في مسيراتهم.

ومع ذلك، كانت هناك بعض العلامات المشجعة على مدار اليومين الماضيين منذ الأحداث في مبنى الكابيتول، على أن النظام البيئي اليميني في الولايات المتحدة يأكل نفسه أو على الأقل يتفتت.

حتى أن بعض أكثر الأصوات المسعورة في وسائل إعلام مردوخ قد تراجعت، مدركة أنها قد ذهبت لأبعد مدى. فالنتيجة الطبيعية للاستمرار في عدم احترام الدستور هي: إبعاد المحافظين  ومجموعات الأعمال الذين يشكلون حجر الأساس لجمهورهم.

على سبيل المثال، دعت صحيفة وول ستريت جورنال إلى مساءلة ترامب على الرغم من أنها لم تعترف بعد بدورها على مدار الشهرين الماضيين في بناء أسطورة أن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات. وقامت شبكة فوكس أيضًا بتخفيف الحديث عن تزوير الانتهابات.

ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام اليمينية الأخرى ليس لديها مثل هذا القلق، وهي تغوص أكثر في هذا الجنون، حتى أنها تدعي أن أعمال الشغب في مبنى الكابيتول لم تكن من صنعها، ولكنها استفزاز شيطاني دبره المتظاهرون اليساريون “أنتيفا”. ولكن في الحالة الأمريكية، وفي بلد به صحافة حرة وسوق إعلامي متنوع، من المحتم أن ينجذب القراء والمشاهدون إلى وسائل الإعلام التي تعكس قيمهم وتتسق مع المنطق، لذا فإن التطرف إلى اليمين ودعم مواقف ترامب مثله كالتطرف إلى اليسار ومعاداة ترامب وكلاهما خاسران.

الميديا تملك الداء ودواءه

إن أوقاتًا كالتي نمر بها كفيلة بأن تبث باليأس، والانزعاج في الولايات المتحدة، التي أخفقت بسبب الانقسامات السياسية والإعلامية في الاعتراف بالتنوع والإقرار بالإنسانية المشتركة.

وأصبح غالبية الأميكيين رهن الحبس الاختياري وراء الشاشات بسبب الوباء، وأصبحت وجهة نظرهم محدودة ومعطم الأشخاص الذين لا يرونهم إلا من خلال وسائل الإعلام باتوا ثنائيي الأبعاد ومجردين من الإنسانية، وأصبح من الصعب التعاطف مع البشر على الجانب الآخر على حد عبارة الصحفية “إيما تردواي”، في مقال نشرته صحيفة Daily Princetonian.

وأضافت “تريدواي”: هناك أمران واضحان: ما حدث الأربعاء كان بغيضًا ويجب أن يكون هناك تغيير. وهذا التغيير، على الرغم من بساطته ظاهريًا، صعب للغاية: يجب أن نعترف بإنسانيتنا المشتركة، بغض النظر عن المعتقد السياسي، وأن نعمل على إصلاح علاقة سياسية متصدعة لدرجة أصبحت تعرض الأرواح للخطر في المعسكرين اليميني والليبرالي”.

ودعت “تريدواي” زملاءها الصحفيين، بل دعت كذلك الجمهور الأمريكي إلى الاستماع إلى قصص من حولهم والتفاعل معها. وتعتقد أن الاعتراف المتبادل بالمشتركات العامة والرغبة في رؤية تعددية الأبعاد لمن حولنا هو ما يغير العقول. وتؤكد أن مشاركة قصصنا هي الوسيلة الأكثر فاعلية لإنجاز هذه المهمة، لافتة إلى أن أحداث اقتحام الكابيتول تكفي لكي تؤكد  لكي تقنع الأمريكيين بأن فهم الآخر واستيعابه أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.