طارق إمام يكتب: "كتيبة سوداء".. سيرة أجساد مظلمة

(1)

باللغة المضارعة، شَيَّد محمد المنسي قنديل، روايةً موضوعها الماضي.

نعم، تتحقق “كتيبة سوداء” (دار الشروق، القاهرة)، بلغة مضارعة تبدو كاختيارٍ جمالي عميق بينما تُقارب حادثةً ماضوية، وكأن “الشكل” في ذاته “دلالة”، فليس من ماضٍ أُغلقت صفحته، وكل ماضٍ يتحول بقانون الفن إلى مضارع يقع الآن، قادرٍ من ثم على فتح باب واسع على أسئلة المُقبل.

مجدداً يعود قنديل للتاريخ، أحد روافده الأثيرة، لا ليعيد تدوين واقعة، بل، بالأحرى، ليعيد تأويلها بقوة اللغة واكتشافها بقوة التخييل. أواسط القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1863 يقرر الخديوي سعيد باشا إرسال كتيبة “أورطة” مؤلفة من ثلاثمائة رجل أسود للمحاربة في المكسيك تحت لواء الجيش الفرنسي، بعد أن أوكل نابليون الثالث للأمير النمساوي ماكسميليان حكم هذه البلاد وفق صفقة سياسية. هذه هي سطور “الواقعة” كما يمكنك أن تعثر عليها في استعراض تاريخي مقتضب، لكن الرواية لن تكل إزاحة “التقريري” ليغدو تخييلاً خالصاً، لا تكمن أهميته في النقل أو المحاكاة،  بل في تقليب الإجابة الجاهزة بغية الذهاب بها للسؤال. حكاية يُعاد تأويلها أكثر مما يعاد سردها، إنه التأويل، ذلك المنحى الشعري الذي نستطيع العثور عليه هنا، في مستواه الأكثر عمقاً.

نرشح لك: 7 نصائح من محمد المنسي قنديل لشباب الكُتاب


بين الذهاب والعودة تتحقق ملحمة حقيقية يرسمها قنديل بحرفية، مقدماً نصاً يمتزج فيه التخييل بالتأريخ، وحيث تغدو الواقعة شرارة تضرم عالماً روائياً. من خيط “المثبت” الواهي والمقتضب يجري تشييد الواقعة الفنية بصلابة البناء الدرامي والمعقولية الفنية التي ما إن تستجيب للمحاكاة تارة حتى تدير لها ظهرها تارات.

“كتيبة سوداء”، إنه يبدو أكبر بكثير من عنوان مثالي يلخص في كلمتين ما تجاوز 470 صفحة من السرد الملحمي. ليس السواد فقط لوناً لأولئك العبيد الذين يحتلون الأفق الغائم لذلك النص، لكنه أيضاً لون يلائم مصائر كافة أشباح هذه المحكية، وأولهم السادة البيض. يتجاوز اللون إذن دلالته الأوّلية باتجاه أفقه المجازي، فأغلب ذوات هذا النص يواجهون لعبة مصائر داكنة، يتوجها الموت أو الجنون. ويبدو الليل مهيمناً في مواجهة النهار الذي يطل على استحياء في هذه الرواية، حتى الشمس، تحضر في هذه الرواية مظلمة.

(2)

يبدأ قنديل من لحظة صفرية، في عتبةٍ تأسيسية تخييلية تحاول تأسيس ما قبل الواقعة. على شاطئ “بحر الغزال” تحط سفينة “ود الزبير” جلاب العبيد، مؤذنة بانطلاق السرد: “في البدء كان هناك سلطان وتاجر وتمساح”، بدء كأنه بدء خليقةٍ موازية مكانها هذه الرواية، وحيث تستبدل أيام الخليقة الست بسنوات الرواية الخمس. السارد، في لعبةٍ سرديةٍ أولى، يستعير بنية الأمثولة، حيث السؤال الأخلاقي المجرد مبطن بمحكية متجسدة تختزل فيها الشخصيات على ثرائها الإنساني إلى أدوارها أو وظائفها.

المحكية الأولى تتأسس على مثلث يتوفر على الشرط الدرامي المؤذن بالصراع. أليس مثلثاً أبدياً نستطيع تجريده لمقولاته الرئيسية؟ سلطة “المقايضة”، وسلطة “التملك”، وهما تتحدان في مواجهة سلطة الفطرة ممثلة في الطبيعة/ الغريزة. يقتل التاجر “ود الزبير” جلاب العبيد تمساحاً على الشاطئ.  هكذا نفتح الرواية على طلقة مدوية كأنها الخطيئة الأولى في ذلك الفردوس التي ستؤذن بمغادرة أبطاله العراة للأبد. يقتل التاجر “الطبيعة” ممثلة في أحد أشد كائناتها عنفواناً، ويردي “الغريزة العمياء” التي كانت حتى تلك اللحظة مسترخية في فردوسها، صريعة. المثلث، عندما يفقد أحد أضلاعه، لن يلبث أن يستعير ضلعاً مكانه، وهو في الحالة الروائية ضلع لا يختلف كثيراً في حقيقة الأمر عن سابقه: فالعبد، كالحيوان، كلاهما منبوذ، كلاهما قوة غريزية، وكلاهما يرزح تحت نير الحضارة الوافد ليقضي عليه. البندقية التي قتلت الحيوان هي الإغواء: يمكن للسلطان أن يقتل بها أعداءه. إنها نفس البندقية التي سيساوم بها التاجر زعيم القبيلة، الذي يحتاج سلاحاً بأكثر مما يحتاج البشر. مقابل حفنة بنادق، سيمنح السلطان لتاجر العبيد “أورطة” من العبيد، ذاهبين إلى حرب غامضة في أقصى العالم.  كأنه اقتراح آخر لبدء الخليقة، في اتجاه آخر: يبدأ الإغواء،  ليغادر الرجل العاري فردوسه.هذا المثلث الأول، إذ يبسط أضلعه، هو ما سيصنع مصائر هذه الرواية.

سينتهي الفصل التأسيسي بالتاجر وقد جُرِّد من كل زهوه، بعد نزوة فاشلة مع “البرنسيسة”، تلك الأوروبية الغامضة التي تجيد عقد الصفقات أكثر منه، وتملك، فوق ذلك، سلطة إنزال العقاب بمن لا يرضخ لمنطقها في المساومة. لا يجتمع رجل أسود بامرأة بيضاء إلا ليفقد حياته. ولن يتبقى من السلطان سوى تعرفه على رحلة الدم، حيث يغادره الفصل التأسيسي وهو يتأمل سلاحه الجديد، تاركاً حكايةً أخرى مفتوحة على التأويل. سينجو من ذلك الفصل، فقط، العبيد السود الذين سيبدأون رحلتهم كجنود، لكن، هل سينجون حقاً؟

إنه أيضاً فصلٌ يمثل الحكاية الإطارية، في تناص رهيف مع بنية “ألف ليلة وليلة”، حيث تُمثل الحكاية الكبيرة إطاراً يسمح بتوالد لن ينتهي لمحكيات متعانقة، لتتحقق في الأخير بنية روائية يتجادل فيها العالمان دون أن يسيطر أحدهما على نفقة الآخر. ومثل ألف ليلة وليلة، ستعود الحكاية المولَّدة قرب نهايتها للنهر الأول، كأنها بنية دائرية يتمركز فيها عودٌ أبدي، سيعود الجنود في نهاية المطاف، للغابة نفسها، ليعيدوا الكرة من جديد، وكأننا أمام صفحة لن تطوى أبداً، وإن تغيرت التفاصيل.

في خطين متوازيين، ستتحرك الرواية بعد ذلك، عبر سارد عليم يمسك برهافة، وباستبطان شاعري، بخارطة الحدث. ثمة رحلتان سيجري رصدهما في تقاطعات محكمة،  الأولى هي رحلة الجنود باتجاه الأرض البعيدة التي ستصبح ساحة لمعركتهم المنتظرة،  والثانية رحلة “ماكسميليان” الأمير النمساوي الذي بلا عرش وزوجته “شارلوت” باتجاه الأرض نفسها، قبل أن يتزاوج الخطان في مصب نهر واحد.

(3)

خمسة أعوام، هذا هو الزمن السردي لـ”كتيبة سوداء”، وهو أيضاً عدد فصولها. اعتلى كل تاريخ من العام 1863 وحتى 1867م هامة فصل كبير، مقسم إلى مقاطع مرقمة، لتتحقق الرواية في الأخير في تسعة عشر مقطعاً انضوت تحت الفصول الكبيرة. التاريخ فقط هو عنوان الفصل، إذا ما استثنينا الفصل الأخير الذي شهد عنواناً صغيراً ملحقاً بالتاريخ: “نفوس ومصائر”. كأن “التاريخ” وحده يكفي لاكتناز كافة الدلالات الراقدة خلفه، دون احتياج لعنوان شارح. إنه أمر لا يخلو من دلالة، عندما يصير الرقم قادراً على استبعاد اللغة. بالتقاطع مع مغامرة الكتيبة السوداء، التي ستقطع البحر لتحط أخيراً في ميناء فيلا كروز المكسيكي، تنهض مغامرة مقابلة تشكل مع المغامرة الأولى وجهي عملة واحدة.

ماكسميليان، الأمير المنفي وزوجته شارلوت في قصر ميرامار الإيطالي بعيداً عن عرش النمسا البعيد، يتلقيان فجأة سبباً جديداً لوجودهما: حكم تلك الأرض البعيدة، بعد أن وافق البرلمان المكسيكي بالإجماع على اختياره إمبراطوراً للبلاد . لا يختلف وصول الجنود كثيراً عن وصول الملك المنتظر وزوجته، المرأة التي بلا فراش. وبينما توقظ الأرض الجديدة غريزة القتل لدى الجنود، فإنها تشعل غريزة الجنس المكبوت لدى الإمبراطورة الناشئة. الحرب واحدة، سيخرج منها الجميع خاسرين. لكن في غمار ذلك، ينهض السؤال الكبير الذي شيدت هذه الملحمة الروائية على شرفه: أيمكن لعبد أسود قادم من جنوب العالم أن يتقاسم الفراش نفسه مع ملكة بيضاء تبدو كأنما هابطةً من أعلى سماء؟  أيمكن لهذين العالمين اللذين تفصل بينهما يابسة العالم وبحارها، أن يجتمعا ولو للحظةٍ عابرة؟ تنجح الرواية في تقديم إجابة فنية عميقة لسؤالها، مثلما أجادت العثور على السؤال نفسه. فـ”العاصي”  (باسمه المشبع بالدلالة)،والذي تقدمه الرواية منذ صفحاتها الأولى بعناية خاصة، كبطل يختصر “الجماعة” ويمثل قدرتها على الغضب والرفض والتفكير، سيصبح عشيقاً لـ”شارلوت” تحت غطاء عمله كحارس شخصي لها، غطاء هي من غزلته بيدين شاحبتين تغزوهما زرقة احتضار يومي. كأن الحرب، كل حرب، هي لقاء رجل بامرأة، وكأن قانون الجسد (الذي حاول الجميع إنكاره، بدءاً من التاجر والسلطان، ووصولاً للملك غير الشغوف بالنساء) قادر في النهاية على فرض شروطه على جثة الجميع: الحرب والحضارة والمجد الامبراطوري. سيبقى العاصي، بأملٍ واه لن يتحقق، أن يجتمع بشارلوت من جديد، لكنه سيقتل دونها. بالمقابل، سيرزق على جوفان، الذي ارتضى الزواج بماريانا العاهرة، وائتمنها على جسده وحياته، سيرزق بطفل، تنتهي به الرواية، لقد تحققت الثمرة المستحيلة من لقاء الشرق بالغرب أو الجنوب بالشمال، وهو (في بعد رمزي عميق) لقاء العبد بالعاهرة: الجنوب الذي يظل عبداً، والشمال الذي لا يعوزه العهر، لكن الاثنين يحاولان تسييد إرادة مختلفة: حيث يمكن للعبد أن يصير سيداً، وللعاهرة أن تصبح فاضلة.

نرشح لك: سيد محمود يكتب: “المنسي” الذي لا يُنسى

تقنياً، هيمن سارد أقرب للعليم على مقدرات الحكي. سارد يملك عين طائر ترى الأحداث من مسافةٍ آمنة، تتيح الرؤية ولا تعوق الاستبطان. وهو نفسه السارد الذي يمتلك القدرة على نفخ تلك الروح الملحمية في حكاية لا تعوزها عناصر العمل الملحمي. ثمة التفات عميق للمشهدية. اللغة المضارعة التي بدأتُ بها توصيف ذلك العمل، أججت مشهديته، فبدت الرواية كأنها تتحقق لحظة بلحظة أمام قارئها. البنية السينمائية أيضاً حاضرة في التكوين الروائي، فكل فصل يكاد يشكل مشهداً كبيراً، مجزءاً لعدد من الكادرات. لكن ما يجعل من هذه الرواية نصاً استعارياً يتجاوز الطريقة التقليدية التي تنقل ما تراه العين (الكاميرا) سلوكياً دون الغور في دواخل الأحداث أو الشخوص، هو هذه اللغة التي تكتسب شاعريتها الفادحة من ولعها بقراءة ما خلف المشهد، بتأمله وإزاحته من مستوى المحاكاة الأوّلي لمستوى المجاز، ففي هذه الرواية كل مشهد هو مجاز لمجمل الأفكار والمشاعر والمعاني الوجودية التي يمور بها قاعه، والقادرة في الأخير على تحويل الواقعة المحددة إلى موضوع إنساني يتجاوز سجن زمنه وضيق خارطته.