سيرة القراءة (11).. في مرمى النيران

حاتم حافظ

في عام 1982 سافر والديّ للحج، كنت طفلا حين عادا من السعودية وعلى رأس أمي “طرحة”، حتى سفرهما للحج كانت أمي تلبس كما تلبس النساء عادة، تخلت صحيح عن لبس الفساتين القصيرة التي تظهر في الصور القديمة منذ ولدت لكنها لم تتخل عن لبس الفساتين أو الجيبة والبلوزة ولم تتوقف عن الذهاب للكوافير كل أسبوع ولا تغيير تصفيفة شعرها كل فترة.

نرشح لك : سيرة القراءة (10).. كنز جدو حامد

في عمارتنا كانت هناك سيدة تكبر أمي بسنوات طويلة وكان اسمها “أم علاء” نسبة إلى ابنها الأكبر، أم علاء وزوجها عم عبد الله، كانا في مكانة الأب والأم لوالديّ، ليس فحسب لوالديّ ولكن لعائلتنا كلها. كان أي من أخوالي أو خالاتي لا يمكنه الصعود لبيتنا غير بالمرور ببيتهما للسلام وأخذ الواجب أيضا، في مرات عديدة لم يكن يصعد من أساسه، كان يمر بهما فيرسلان في طلبنا ثم تستمر السهرة للنهاية فيرحل الزائر – الذي جاء أصلا لزيارتنا – دون صعود شقتنا من أساسه.

كان بيت “أم علاء” وعم عبد الله هو بيت العائلة، أية عائلة، أم علاء ظلت أيضا – رغم سنها الكبير وأمومتها المفرطة – لفترة طويلة لا ترتدي شيئا على شعرها، بالنسبة لي كطفل كان غريبا أن أفهم الحوار الذي دار بين أمي حين عودتها من الحج وبين خالتي نادية (التي كانت قد ذهبت للعمل بالسعودية وزوجها قبلها بعامين فتحجبت) حين قالت إنها لن تخلع “الطرحة” مرة ثانية، وقتها كان الحجاب اسمه الطرحة. كطفل أيضا لم أفهم مشهد أمي وهي تلبس الطرحة لتفتح الباب لأول مُبارك بالحج في حين أنها كانت – في تلك اللحظة – ترتدي ملابسها العادية. لم أفهم لحظتها ماذا تعني تغطية الشعر القصير الذي كان لأمي قبل فتح الباب أو قبل النزول من المنزل!

بعدها بدأ أبي في شراء جريدة الوعي الإسلامي التي كانت تصدر عن وزارة الأوقاف الكويتية، كما امتلأت مكتبتنا بالكتب التي كانت شركة الريان لتوظيف الأموال تطبعها بأسعار زهيدة، فجأة وجدت مجلدات فاخرة من كتب التفسير تضيق الخناق على كتبي التي انزاحت في ركن صغير من المكتبة، كطفل نهم للقراءة بدأت في محاولة قراءة تفسير الطبري وتفسير ابن كثير، كانت كثرة التفاسير للآية الواحدة تبدو محيرة جدا، اللجاجة في تفسير كل لفظة لغوية أصابتي أيضا بالإحباط.

تركت الكتابين وبدأت في قراءة كتاب لطيف للغاية ظل مشهورا لفترة طويلة وهو “ففروا إلى الله” الذي كان يوزع مجانا لسنوات، الكتاب كان مُوجزا ولم يترك بابا من كتب الفقه إلا وأنجزها. كان – بالنسبة لمجلدات التفاسير – يشبه كتب الإجابات الصحيحة التي كان الطلاب يلجئون إليها في دروسهم من أجل بذل مجهود أقل بفاعلية كبيرة للحصول على أعلى الدرجات دون فهم واستيعاب. تعلمت من الكتاب أشياء كثيرة لكن أشياء أخرى فهمتها بشكل مغلوط، خصوصا بعد أن بلغتُ؛ ففي باب الطهارة مثلا عرفت أن “نزول الدم” يبطل الوضوء، فتصورت أن أي خدش في ساقي إثر لعبي الكرة في الشارع يبطل وضوئي! كان العالم يبدو كأن على وشك تعلم الدين لأول مرة.

في عام 1988 حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل.. كنت طفلا في الرابعة عشر وقتها. وفي حين كان التليفزيون الرسمي يقيم الاحتفالات بهذا الإنجاز الكبير ويذيع جزء من حفل تسلم ابنتيه للجائزة كانت المنابر كلها تسب الرجل. خُصصت صلوات الجمع التالية للطعن في الرجل وفي إسلامه ووُصف أكثر من مرة بأنه عدو الإسلام، سمعت وقتها برواية “أولاد حارتنا” لأول مرة، بعض الشيوخ كانوا يصرخون فوق المنابر غيرة على الإسلام وهم يبررون حصوله على الجائزة بمؤامرة الغرب على الإسلام. نجيب محفوظ حصل على الجائزة لأنه كتب رواية تطعن في الله والأنبياء ليرضي الغرب الصهيوني الذي يريد لو يطفيء نور الله.

بعض الصحف التي كان يكتب فيها مثقفون قوميون فسروا حصوله على الجائزة بموقفه من اتفاقية السلام التي أبرمت قبل تسع سنوات. بالنسبة لي بدا العالم ملغزا. الاحتفاء بمحفوظ في التليفزيون الرسمي كان يتعارض مع ما أسمعه في الجوامع ومع ما أقرأه في الصحف، أبي لأنه كان فيما يبدو كأنه دخل الإسلام حديثا رغم إخلاصه للقومية الناصرية ردد على مسامع أمي – في وجودي – التفسيرين: تفسير حصوله على الجائزة لطعنه في الدين وتفسير حصوله عليها لموافقته على معاهدة السلام وضياع فلسطين!

كنت طفلا مشاغبا؛ فرغم كل هذا الارتباك، أو بفضل كل هذا الارتباك، قررت البحث عن كتاب نجيب محفوظ لقراءته بنفسي خصوصا حين عرفت أن أبي – وبالطبع كل أئمة المساجد – لم يقرأوا الكتاب، لكني بدلا من الحصول على الكتاب حصلت على كتاب “في الشعر الجاهلي” لطه حسين. بسبب حصول محفوظ على الجائزة تردد اسم طه حسين مرة أخرى على المنابر باعتباره أصل الشجرة: شجرة المستغربين الموالين للغرب من منفذي الأجندة الصهيونية للنفاذ لعقل الأمة الإسلامية لضرب مقدساتها! بدا لي طه حسين الزعيم الماسوني الأكبر لهذا السلسال من الملاعين، ولم أفهم لماذا يذيع له التليفزيون إذن فيلم دعاء الكروان الذي كان أبي وأمي يشاهدانه في كل مرة يعرض فيها!

بدا لي كتاب الشعر الجاهلي بسيطا للغاية، حتى أنني استوعبت المنهج رغم صغر عمري، بل بدا لي المنهج بسيطا ومعقولا لأقصى درجة، اعتمد طه حسين في كتابه على منهج ديكارت – الفيلسوف الفرنسي – وهو المنهج الذي يدعي أن كل البشر يخضعون بصورة أو بأخرى لما يسميه “الأوهام”، فبعض الأفكار الشائعة تبدو صالحة لمجرد الشيوع. ولأن المعرفة هي محاولة للبحث عن الحقيقة لا عن الأوهام فالسبيل إليها هو التخلي عن كل معتقد قبل رحلة البحث، منهج شاق ولكنه بديهي، فإن كانت لدي إجابة مسبقة عما أبحث عنه فما فائدة البحث إذن؟!

يكتشف الباحث طه حسين أن ما يسمى الشعر الجاهلي كُتب أغلبه في العصرين الأموي والعباسي، وهو ما يعني أن صورة العرب وحياتهم بعد الإسلام يمكن أن تتجلى على صفحة هذا الشعر أكثر من غيرها، بل – وهذا هو الأهم – فإن التفسير اللغوي للقرآن يمكن أن يستضيء بهذا الشعر.

في ظني أن النتائج التي توصل إليها طه حسين في بحثه “الأدبي” لم تكن مثيرة للتيار الذي كان راغبا في تعليم الناس الدين كأنهم لم يعرفوه بعد ولكن المنهج كان السبب. كان المنهج يلزم الباحث بالتخلي عن كل معتقد سابق وكل فكرة مستقرة وأن يشاغب أكثر الأفكار شيوعا وثباتا. هذا التيار ليست لديه مشكلة مع طه نفسه ولكن لديه مشكلة كبيرة مع “معنى” طه حسين. هذا التيار لا يعادي طه حسين ولكنه يعادي التفكير الذي كان يؤصله طه حسين في العقل المصري. كانت المعركة دائرة بين تيارين: تيار العقل الذي مثله طه حسين (ومن قبله محمد عبده) وتيار اللاعقل الذي مثله الإسلاميون الجدد.

كان أبي قوميا وناصريا. كان منفتحا على الفنون كلها. في طفولتي ذكريات لذهابنا للمسرح، ولتجمع الجيران في بيتنا لمشاهدة الفيلم الأجنبي، ولإذاعة الأغاني التي لا تتوقف في بيتنا ليل نهار، لكنه بداية من الثمانينيات سلّم عقله للآخرين طواعية، للذين فرضوا عليه شراء كتب لن يقرأها وإيداع أمواله لدى مؤسسة لا يعرف أصحابها وكراهية العقول النيرة والممتازة كطه حسين ونجيب محفوظ غيرة على إسلام متخيل في مرمى نيران وهمية.