سيرة القراءة (8).. الحياء المخدوش

حاتم حافظ

فتح لي توفيق الحكيم أبواب المعرفة.. معرفة الكتب التي يجب أن تُقرأ. لكنه لم يفتح لي الطريق للحصول على الكتب. في كتابه تحت المصباح الأخضر الذي افتتحت به القراءة الجادة عشرات الإشارات لكتب تراثية وحديثة.

 

نرشح لك: سيرة القراءة (7).. إيزيس

 

من بينها كتاب العقد الفريد الذي كتب أنه لا يسافر إلا به. وقتها اعتقدت أن العقد الفريد مجرد كتاب يمكن الحصول عليه ولم أتخيل أنه موسوعة معرفية كبرى. حين اكتشفت ذلك لم أفهم كيف كانت حقيبة الحكيم تتسع لها. بعد قراءة الكتاب في سن أكبر ترجح عندي أن ما يقصده الحكيم هو المجلد الخاص بالأدب. ظللت لفترة أسأل عن الكتاب في كل مكان.. في المكتبات القريبة لبيتنا.. وفي المكتبات التي أمكن لأمي ولأبي المرور بها.. دون جدوى. شعرت أن حياتي كقاريء – وككاتب محتمل – مرهونة بقراءة هذا الكتاب. وكما لو أن رغبتي في الحصول على الكتاب لها قوة السحر فجأة وجدت إعلانا صغيرا في جريدة ما عن قرب صدور طبعة جديدة من العقد الفريد عن دار نشر لم أكن سمعت بها، المهم أن الكتاب سوف يكون موجودا في المكتبة القريبة من البيت خلال أسابيع. أوصيت صاحب المكتبة بحجز نسخة ولخشيتي من أن يكون سعر الكتاب باهظا احتفظت بمصروف الشهر وطلبت من أبي سلفة إضافية ومن خلف ظهره استعرت مبلغا من أمي استعدادا لشراء الكتاب.

حين صدر فوجئت بأنه لم يكن يحتاج لكل هذه التدابير المالية. كان سعره جنيهان فحسب! ولم يكن حتى كتابا بالمعنى المعروف، فقد كان يشبه كراسة من كراريس المدرسة. صفحات قليلة مجموعة بين دفتي غلاف في وزن الورق العادي. حين وصلت البيت اكتشفت أن “الكراسة” التي حصلت عليها مجرد مقتطع من المجلد الأول من الموسوعة التي تعرف بهذا الاسم! الإحباط الأكبر أجهز علي بعد قراءة الكراسة والتي كانت مقتطعة من الكتاب الأول المعروف بـ “كتاب اللؤلؤة في السلطان” فمالي أنا ومال السلطان! ومالي أنا ومال طبائع السلاطين وطرفهم!.

الموسوعة كانت مكونة من 25 كتابا، ومعنونة بأسماء الأحجار الكريمة كالياقوتة والزبرجدة والمرجانة والجمانة.. إلخ وكل منها يتخصص في باب من أبواب المعرفة فهذا كتاب الفريدة في الحروب وذاك كتاب الدرة في التعازي والمراثي وذاك كتاب الجوهرة في الأمثال! لم يكن من السهل بالطبع على قاريء في الرابعة عشر إدراك علاقة كل هذه الأبواب بالأدب، عرفت فيما بعد أن ما نسميه في العصر الحديث بالأدب ليس هو بالتخصيص ما كان الأقدمين يطلقونه على الأدب. الأدب كان لديهم مساويا لما نسميه الآن بالعلوم الإنسانية في عمومها، أو ما نعرفه بالثقافة.

احتجت أكثر من عشرين عاما كي أدرك هذا المعنى. والحقيقة هذا درس من دروس القراءة الجادة. ليست القراءة الجادة بالأمر الهين ولكنها طريق محفوف دائما بالمصاعب. والمعرفة تحتاج لقاريء مميز غير متعجل وغير مستهلك للقراءة ولكن متفاعل معها.

على أية حال كان هذا الكتاب بوابة الدخول لعالم الأدب القديم. حتى على مستوى اللغة، كل القراءات التي قرأتها حتى هذا الوقت كانت مكتوبة بلغة سهلة بالنسبة لي. لغة أقرب للغة الشفاهية. فيما كتبت الكتب القديمة بلغة كانت حين كتابتها أقرب للغة الشفاهية في زمنها لكنها لم تعد كذلك الآن، أدركت أن اللغة ليست بنيان أنجز في زمن ما ولكنها عملية مستمرة من التطور.

المعرفة نفسها التي كانت توحي طرائق التعليم التي تلقيناها بها بأنها منجزة اكتشفت بأنها في حاجة ماسة للتفاعل مع الزمن، وأن لا معرفة كاملة ولا مكتملة، فالمعرفة عملية تتطور بقدر قدرتها على التوائم مع الزمن.، كل المعرفة كما لو كانت كتابا ناقصا لا يكتمل إلا باكتمال التجربة البشرية كلها. كتاب يقبل الحذف والإضافة والتعديل وإعادة النظر وخاضعة طوال الوقت للاختبار.

لا أزعم أني بسهولة استطعت قراءة الكتب القديمة دفعة واحدة لكن كتاب العقد الفريد دفعني لقراءة عدد من الكتب التي أحسب أنها حسّنت معرفتي باللغة مثل كتاب البيان والتبيين للجاحظ. لكن الكتاب الأهم كان كتاب ألف ليلة وليلة، لم يكن الكتاب فحسب مكتوب بلغة فريدة في سهولتها ولكن أيضا كان بوابة سحرية لتطوير خيالي كقاريء وككاتب.

في التسعينيات صدرت طبعة شعبية من ألف ليلة وليلة في سلسلة الذخائر التي كان يشرف عليها المرحوم جمال الغيطاني وفوجئت بأن الكتاب تمت مصادرة طبعته بعد صدور الأجزاء الأولى. لم أعرف ما الذي يمكن أن يزعج أحدا في كتاب بديع كهذا لحد وصفه بأنه كتاب خادش للحياء؟!

في ظني أن مثل هذه النصوص التي يري هؤلاء ضرورة منعها وحجبها وإعدامها هي النصوص التي تفكك الأرضية التي يقفون عليها أساسا، والتي قد تنفي أي ضرورة لوجودهم بالأساس. لهذا كانت كتب نصر أبو زيد كمثال مركز هجوم النشاط الوعظي (وما يتصل به من نشاطات الإسلام السياسي بتفريعاته) لأنها -أي كتب أبو زيد- تمنح الإنسان القدرة علي المبادرة والقوة على الفعل، مستبعدة أفكارا رتيبة ومكرورة بشكل عبثي في تاريخ الميثولوجيا من قبيل الغواية والقدرية. لهذا أقول إن هؤلاء يتصدون باستمرار للنصوص التي تفترض بداهة أن الإنسان مجبول علي الحرية، والحرية بالطبع لها باع طويل في خدش حياء هؤلاء!

في كتابه لسان آدم يقول عبد الفتاح كليطو “يقال أحيانا علي سبيل المداعبة، إن الأغريق يتعرفون علي أنفسهم في الإلياذة، والإيطاليين في الكوميديا الإلهية، والإسبان في دون كيخوته، والإنجليز في هملت، والفرنسيين في المقالات لمونتين، والألمان في فاوست” ثم يمضي في طريقه لمحاولة اكتشاف أي من الكتب يمكن للعرب أن يتعرفوا فيه علي أنفسهم، ويخلص إلى نتيجة فحواها أن “ألف ليلة وليلة” هو هذا الكتاب. أذكر وقت أن قرأت هذا المقال لكليطو أني لم أوافقه في رأيه، لا لأن الليالي ليست الكتاب العمدة في الثقافة العربية فحسب ولا لأن هناك مئات الكتب التي أنجزتها العقلية العربية في تاريخها ولكن بالأساس لأني استشعرت أن فكرته عن الكتاب الخاص بكل ثقافة شرطه قبول أبناء هذه الثقافة أو تلك لهذا الكتاب باعتباره عنوانهم الحضاري. المضي في هذا الطريق يخلص إلى نتيجة بعيدة عن خيال كليطو، لقد كان القرآن وليس الليالي أو غيرها هو الكتاب الذي توافق عليه الجميع باعتباره دالا عليهم وعلى ثقافتهم، وفي ظني أن الارتباط الشرطي بين القرآن وبين اللغة العربية علي الرغم من أن القرآن نزل بلسان عربي دون ألسنة عربية أخرى كانت متداولة في شبه الجزيرة وقت نزول القرآن، ورغم الألفاظ التي قيل أنها تنتمي لألسن خارج شبه الجزيرة، أقول إن هذه القناعة بأن القرآن هو اللغة وأن اللغة هي القرآن إشارة إلى هذا التوافق العام حول اعتبار النص القرآني الكتاب الدال على ثقافة العرب.

 

نرشح لك: سيرة القراءة (6).. الخبيئتان

 

الإشكالية هنا من وجهة النظر الحضارية أن العرب دون شعوب العالم ودون ثقافاته يختزلون تاريخهم في كتاب سماوي إلهي، أي في كتاب لم يكتبوه. فإذا كان الإغريق يتعرفون على أنفسهم ويتعرف عليهم العالم من خلال الإلياذة فإن العرب يقللون من منجزهم الحضاري بهذا التجاهل الذي أحسبه ليس جهلا منهم وإنما خوفا من أن تكون عنايتهم بمنجز لغوي آخر جرحا لمعجزة لغوية عظيمة الشأن وأعني بها القرآن نفسه.

يمكن للعرب أن يفاخروا الشعوب والثقافات بمنجزهم الحضاري الفذ في سلسلة كبيرة من كتب التراث، من منا لم يقع في هوى رسائل بن عربي، ولا في رباعيات الخيام، ولا في الإمتاع والمؤانسة ولا في منطق الطير ولا في بخلاء الجاحظ، ناهيك عن البيان والتبيين والأغاني وغيرها مما نُشر (للمفارقة) في سلسلة الذخائر التي حاول الظلاميون النيل منها. ومع هذا فإن أي من هذه الكتب يمكن التضحية به لأنه موسوم بالبشرية التي هي خاطئة على الدوام ومغوية على الدوام وخارجة عن الملة في بعض الأحيان.

إذا ما صح تقديري في أن العرب قد اختاروا القرآن كتابا ليتعرفوا فيه على أنفسهم فإن ذلك في ظني ليس علامة على تدينهم بقدر ما هو علامة على نزعة أخروية في خطابهم الثقافي الراهن، وتخلي عن روح المبادرة لصالح قدرية مبالغ فيها، قدرية تُبقي على وجود هؤلاء الوعاظ الذين يستمرون في إعادة تدوير أسطورة الشيطان للإبقاء على وجودهم، هؤلاء الوعاظ الذين يخدش حياءهم كتاب هو المنجز الأدبي الأكبر في تاريخ البشرية كلها وليس في تاريخ اللغة العربية فحسب، بدليل الافتتان الذي لم يخفت شرقا وغربا بسحر الليالي التي صاغتها ثقافات إنسانية متعددة رغم طابعه الإسلامي، والذي لا يعرف له مؤلف رغم مشاركة حكاياته كلها في خيال جموح لا راد له.

هذا الكتاب الذي خدش حياء هؤلاء وغيرهم ممن تلقفوا نسخه في أيام قليلة فور صدور طبعته التي حققها شيخ أزهري، جدير به أن يكون في كل بيت عربي وغير عربي لأننا مدينون له بفضل توهج خيالنا البشري طوال هذه القرون، لأنه الكتاب الوحيد في ظني (ربما بجانب كليلة ودمنة) الذي هو خيال محض، أنجزته إنسانية محضة، في لحظة طفولة استثنائية في تاريخ البشرية الموسوم بالدم والعنف والظلامية التي تحاصرنا بلا حياء.