الدبلوماسية المصرية.. صيف ساخن وملاحة حذرة في بحر مضطرب

محمد إسماعيل الحلواني

القاعدة الذهبية

في 30 يونيو 2013، اندلع الغضب الشعبي العارم وسقط حكم المرشد؛ فكانت الدبلوماسية المصرية على موعد مع معركة تؤكد القاعدة التي حفظناها ظهرًا عن قلب: “إذا لم تهتم مصر بالخارج، فمن المؤكد أن الخارج سيهتم بها”، ما يفسر اهتمام دول مؤثرة كالولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا بالتعليق على ثورة 20 يونيو، وكانت قيادات الغرب تخشى من أن إسقاط حكم الإخوان قد يعني صعودًا تلقائيًا لنفوذ السلفيين كبديل للإخوان.

مرت مصر بمرحلة تغيير تمس بطموحات وتعصف بأوهام ومطامع قوى إقليمية تبنت خطابًا حاول الانتقاص من الثورة وخريطة الطريق والشرعية الجديدة، سواء على المستوى الرسمي كما في حالة رئيس الوزراء التركي، آنذاك، رجب طيب أردوغان، أو على مستوى الدوائر الأكاديمية والإعلامية، كشبكة الجزيرة القطرية.

الحنكة والاحتواء

قبلت الدبلوماسية المصرية التحدي فتبنت، بدورها، خطابًا موازيًا نجح لأبعد الحدود في تقديم الحجج المضادة Counter Arguments، وكشف تعقيدات المرحلة الانتقالية التي تخفق الدوائر الغربية في إدراكها، وإذا أدركتها فربما تتعمد تجاهلها.

استراتيجية طويلة المدى

انطلق الأبواق المعادية في محاولات خبيثة للربط بين اسم مصر وأبشع المزاعم المعلبة بالعنف والإقصاء وعدد لا حصر له من ديباجات رددتها وسائل الإعلام الغربية، وبعض أنظمة الحكم الإقليمية. وتصدت مصر لحملات التشويه، ففطنت منذ وقت مبكر إلى أن دور وزارة الخارجية وحده لا يكفي؛ وساهمت مؤسسات الدولة في جهود منسقة لإعادة بناء صورة الدولة المصرية في الخارج بعد ثورة 30 يونيو، وأبحرت تلك الجهود بين الأنواء، وتهديدات بتعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، وتمكنت هذه الاستراتيجية التي استندت بشكل كبير إلى مفهوم الدبلوماسية العامة Public Diplomacy، من أداء دورها باقتدار على نحو عكس حجم التغيير الثوري الذي حدث في 30 يونيو والطموحات الديمقراطية للشعب المصري.

ظروف عمل صعبة

كان على الدبلوماسية المصرية التصرف في حدود الوسائل المتاحة، أو على حد تعبير أحد الدبلوماسيين المصريين في واشنطن: “كنا نتحدث إلى دبلوماسيين دولهم لديها سفارات في قلب القاهرة. وزار بعض أعضاء هذه البعثات اعتصامي النهضة والرابعة بانتظام، وكان الكثير منهم على اتصال بشخصيات من تنظيم الإخوان”.

أدوات مهمة

استند تنفيذ الاستراتيجية إلى مجموعة واسعة من الأنشطة الخارجية لإذابة التصورات النمطية السائدة عن الدولة في الخارج، من خلال الإقناع وخلق مساحات للتفاهم المتبادل وشملت منذ ذلك الحين: الدبلوماسية الثقافية ودبلوماسية التبادل الطلابي ودبلوماسية المشاهير والبث الإعلامي الوطني باللغات الأجنبية والأنشطة البحثية من خلال السفارات المصرية ومراكز الفكر وتبني فكرة ورواية تخدم الدولة المصرية الجديدة الخارجة من تحت ركام نظام متطرف سقط سقوطًا مدويًا، وركزت استراتيجية الدولة المصرية على صورة الدولة في الخارج State Branding.

وثيقة الحقيقة.. مصر تتحدث عن نفسها

كانت كافة الجهود الإعلامية والدبلوماسية ملتزمة بخط وطني شديد الوضوح وحرص كبير ومتزامن على شرح ما حدث في 30 يونيو للعالم، مع توضيح تفاصيل خريطة الطريق والمحطات الرئيسية التالية للثورة حتى الوصول إلى بر الأمان. وكان التحدي الرئيسي الذي واجه الحكومة المصرية مرتبطًا بقدرة مصر على أن تتحدث عن نفسها وأن تخبر العالم بمزيد من تفاصيل المرحلة الانتقالية وأن تبعث الطمأنينية حول المستقبل وأن تؤكد التمسك بالديمقراطية وحماية الحقوق والحريات، وفندت التصورات البالية السائدة في الخارج التي ركزت على مصير الإخوان باعتباره الحدث الأبرز.

نجحت مصر في أن توضح للعالم أن رفاهية المصريين والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعب يزيد تعداد سكانه عن 100 مليون نسمة أولوية قصوى لا تعدلها أولوية أخرى. وكانت النجاحات في إعادة صياغة هذه الأولويات مرتبطة إلى حد بعيد بالقدرة على تبني استراتيجة دبلوماسية شديدة الذكاء والمرونة.

أين كنا وإلى أين وصلنا؟

تتكلم مصر فيسمع العالم، وتحذر مصر فيفكر العالم في العواقب، وتطرح مصر المبادرات فيسارع العالم إلى تقييمها وسرعان ما ينضم إليها، ربما كان ذلك اقرب وصف لما استطاعت مصر تحقيقه في الذكرى السابعة لثورة 30 يونيو.

وتتواصل النجاحات

أبى 30 يونيو 2020 أن يأتِ إلا برفقة انفراجتين بارزتين لاثنين من أبرز التحديات التي واجهتها مصر منذ مطلع الألفية، وهما ملف الأزمة الليبية وملف سد النهضة الإثيوبي.

حدد خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في سيدي براني حدد الخطوط الحمراء لصيانة الأمن القومي المصري التي لن تتهاون مصر في أي انتهاك لها، وما أن أنهى الرئيس السيسي خطابه، حتى حصد التأييد من قائمة طويلة من الدول ليس آخرها إيطاليا وفرنسا واليونان والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرية والأردن والسعودية والمزيد، وحظي إعلان القاهرة الذي رسم خريطة الطريق لإحلال السلام ووقف الاقتتال في ليبيا بمباركة المجتمع الدولي.

أما فيما يتعلق بمشروع سد النهضة، فقد أكدت مصر عمليًا نبذها للاحتكار والإجراءات الأحادية، وتوجت القمة الأفريقية المصغرة مساء الجمعة الموافق 26 يونيو، اي قبل بضعة أيام من الاحتفال بذكرى ثورة الشعب المصري في 30 يونيو، بقرار بالغ الأهمية باتفاق القاهرة وأديس أبابا والخرطوم على عدم الشروع في ملء خزان سد النهضة إلا بعد بلورة اتفاق يحسم كافة المسائل الفنية والقانونية، كل ذلك في وضح النهار وبمباركة ووساطة تثمنها مصر من قبل جنوب أفريقيا وكينيا ومالي والكونغو الديمقراطية بحضور مراقبين من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي والإدارة الأمريكية.