ذكرى رحيل محمود مرسي.. "عتريس" السينما الذي نعى نفسه

في مثل هذا اليوم، وقبل 15 عامًا، رحل عنّا قامة فنية كبيرة وموهبة استثنائية في تاريخ السينما المصرية، اختار أدواره بعناية فظل حيًا في أذهان الجميع، فلن ينس الجمهور شخصية “عتريس” في “شيء من الخوف”، و”بدران” في “أمير الدهاء”، وضابط السجن “فتحي عبد الهادي” في “ليل وقضبان”، والأستاذ الجامعي “فؤاد” في “الباب المفتوح”، والأب المعلم في مسلسل “العائلة”، والنصاب في “الثعلب فات”، وغيرها من الأدوار التي لا تزال عالقة في ذاكرة الجمهور.. إنه الفنان محمود مرسي.

طفولة صعبة

تميزت أغلب الشخصيات التي جسدها محمود مرسي بكونها مركبة وعميقة، لكنه قدمها بشكل سهل وبسيط لتصل للمشاهدين بكل مشاعرها، والذي ساعده على ذلك دراسته للفلسفة؛ فابن الإسكندرية الذي ولد في 7 يونيو عام 1923، التحق بالمدرسة الثانوية الإيطالية ضمن القسم الداخلي، ومن بعدها التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة الإسكندرية، وعمل مدرسا بعد تخرجه، ولكنه سرعان ما قدم استقالته وقرر أن يسافر إلى باريس ليدرس الإخراج السينمائي بمعهد الدراسات العليا السينمائية “ايديك”.

قضي “مرسي” طفولة صعبة ومشتتة، خاصةً بعد انفصال والديه وزواج كلاهما، ليقول في أحد تصريحاته التلفزيونية: “انفصال والدي عن أمي أثر في نفسي على المدى الطويل بالغ الأثر، ذلك أن درجات من الشك والإحساس بعدم الأمان والقلق ظلت ملازمة لي طوال حياتي”. لذلك دخل مدارس داخلية، وكان ضئيل الحجم مما جعله يعاني من مضايقات من الطلبة الأكبر منه سنا وحجما، وظل ينتقل بين المدارس الأجنبية في الإسكندرية في ذلك الوقت لوجود الجالية الإيطالية والأجنبية.

خطاب الاستقالة

“لا يُمكنني أن أعمل أو أقيم في دولة تشن حاليًا عدوانًا على بلادي وتُلقي بقنابلها على أهلي في مصر”.. هكذا استقال محمود مرسي من هيئة الإذاعة البريطانية BBC على الهواء، في آخر حلقة يقدمها ببرنامجه، احتجاجًا على العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وذلك بعدما عمل بها مذيعًا لمدة 7 أشهر. وبسبب ذلك الخطاب الذي ألقاه في الإذاعة، تم تعيينه مخرجًا ومذيعًا في الإذاعة المصرية تقديرًا لموقفه الوطني بعد عودته للقاهرة، بقرار من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعمل في البرنامج الثقافي وأخرج العديد من المسرحيات العالمية، التي جعلته يكتسب خبرة عملية طويلة إلي جانب خبرته الأكاديمية التي اكتسبها أثناء وجوده في فرنسا.

بين ناصر والسادات

تميز مرسي بشخصيته القوية وصراحته في حديثه، واختيار أدوار تجسد الواقع وتصل للجمهور بعيدًا عن أن يكون “نجم شباك”، لذلك وضعته بعض أدواره في مشاكل مع الرئيسين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات، لا سيما دور “عتريس” في فيلم “شيء من الخوف” الذي شبهه البعض بأنه يجسد ديكتاتورية عبد الناصر. وكذلك دور “الموظف العام” في فيلم “حد السيف”، والذي كان يرصد التحولات الاجتماعية نتيجة سياسة السادات التقشفية بسبب الانفتاح الاقتصادي.

 

اشتدت الأزمات بسبب أعماله والسياسة، لا سيما في عام 2000، بعدما نشر أحد الكتّاب مقالًا أحدث ضجة كبيرة تحت عنون “محمود مرسي يخون أبو العلا البشري”، وذلك لاعتقاد الكاتب أن “أبو العلا” ناصري، وكتب في مقاله أن محمود مرسي يعلق صورة مكبرة للسادات في منزله ولم يعلق صورة لعبد الناصر، وبذلك يكون قد خان عبد الناصر، الأمر الذي دفع “مرسي” للرد على هذا الوصف، وقال في حوار مع الإعلامية أمل فوزي: “هل معيار الوطنية أن أعلق صورة للسادات أو عبد الناصر ولو فرضنا إذا علقت صورة لعبد الناصر كان من المفترض أن يسألوني لماذا وضعت الصورة وعن أي مرحلة في تاريخه”، معلنا أن صور عبد الناصر كانت في قلبه ولكن بعد يوم 9 يونيه انكسرت هذه الصورة، لأن في ذلك اليوم رقص النواب في مجلس الأمة لرجوع عبد الناصر للحكم، قبل أن يعود حق الشهداء.

ولم ينكر مرسي في الحوار أنه كان متحيزًا من البداية لعبد الناصر، لكن كانت هناك أشياء تحدث طول الوقت تجعله لا يفهم ما يحدث، وما يحدث يوميا كان يجعله يفقد الثقة به وبما حوله، لدرجة أنه اقتنع أن هناك سيناريو مُحكم ضد مصر ينفذه مجموعة كبيرة من الأشخاص بمن فيهم عبد الناصر، قائلا: “مين قال أن أبو العلا البشري كان ناصري؟”.

 

أدوار الشر

لم يعلم الفنان الكبير في بدايته أن أدوار الشر التي كان يرفضها ستكون سببًا في شهرته الكبيرة التي حصل عليها، فقد وافق بصعوبة علي قبول فيلم “أنا الهارب” واعتقد أنه لن يقدم هذا الدور الشرير مجددًا، لكنه تميز فى هذه النوعية، لا سيما شخصية “عتريس” في “شيء من الخوف”.

ولكثرة أدوار الشر التي كانت تعرض عليه وكان يؤديها ويتقنها ببراعة في السينما، تفاجأ محمود مرسي عندما عُرض عليه شخصية “أبو العلا البشري” واتصل بالمخرج وقال له: “هل هذا الدور أرسل بالفعل لي أم حدث خطأ، لأن المخرجين دائما يرسلون لي أدوار الشر”. وروى أنه قال لصلاح قابيل عندما قام بدور الشرير بأحد الأدوار معه واتقنه: “خلى حد يقاسمني في أدوار الشر اللي أنا زهقت منها”.

القيمة والتكريم

حرص محمود مرسى علي مدار رحلته الفنية على أن يقدم أعمالًا سينمائية ذات قيمة وبها شخصيات جديدة ومختلفة ومؤثرة، وكان يرفض سيناريوهات عديدة بسبب سطحيتها أو تكرارها لأدوار قام بتأديتها من قبل، فكان يصر أن تحمل أدواره رسائل قيّمة ومفيدة للجمهور، لذلك لم يقدم كثيرًا من الأعمال خلال مسيرته، لا سيما في فترة السبعينيات والثمانينيات.

حصل “مرسي” علي مدار رحتله الفنية علي عدد كبير من الجوائز، ولكنه كان قد اتخذ قرارًا برفض ترشيحه للفوز بجائزة الدولة التقديرية في مصر كممثل، ورفض وصفه بـ”الممثل العبقري” مؤكدًا أنه ممثل متواضع وليس مبدعًا كما يقولون، وأن الأحق بهذه الجائزة المخرج والمؤلف لأن الممثل بدونهما لا يستطيع أن يبدع، قائلاً: “التمثيل بالنسبة لي في جميع المراحل كان أقرب إلى الكرة التي أحاول التخلص منها فأقذفها بقوة، وعلى طول يدي وإلى آخر المدى، لكنها ترتطم بالجدار لتعود لي أكثر قوة”، ولم يوافق على قبول جائزة الدولة التقديرية مرة أخرى إلا بعد أن تغيرت صفتها، وهي منحها له تقديرًا لعطائه الفني ككل على مدار رحلته الفنية، وليس كممثل فقط.

النعي قبل الرحيل

واستكمالا لشخصيته المتفردة وقراراته غير المتوقعة، فقد كتب محمود مرسي نعى رحيله بنفسه قبل وفاته في 24 أبريل عام 2004، وأوصى أن يُنشر بعد وفاته، وذكر به أسماء أصدقائه المقربين الذين لم يكن من بينهم أي من الفنانين، بل إنه بناء على وصيته طلب دفنه بالإسكندرية بمقابر أسرته، وألا يذاع الخبر إلا بعد دفنه، ليفاجأ الجميع بأنه قد مات ودُفن دون أن يعلم أحد عن صراعه مع المرض أو موته إلا بعد دفنه، إذ توفي إثر أزمة قلبية حادة أثناء تصوير مسلسل “وهج الصيف”، عن عمر يناهز 80 عاماً.. تاركًا خلفه إرثًا فنيًا لا يزال أثره متوهجًا في ذاكرة الفن المصري حتى الآن.

نرشح لك: محمد رفعت.. الصوت الذي تُفتح له أبواب السماء

نرشح لك: حكاية أحمد زكي وعقدة “الكابتشينو”

شاهد: يوم مش عادي في ضيافة الإعلامية رنا عرفة