قصة البيضة والفرخة في السينما المصرية.. نعمل مهرجانات للأفلام ولَّا أفلام للمهرجانات؟!

نقلا عن المقال

إيهاب التركي

كل مهرجان سينمائى إضافة جميلة للثقافة بشكل عام، ولكن فى ظل غياب الأفلام المصرية كمًّا وكيفًا تصبح المهرجانات المحلية من الإسكندرية حتى أسوان مهرجانات لتكريم الأفلام الأجنبية، وقراءة الفاتحة على السينما المصرية.  لا يكفى هذا العدد المحدود للغاية من الأفلام الجادة المستقلة المُنتجة سنويًّا لنقول إن السينما المصرية موجودة، فكيف تحوَّلنا من هوليوود الشرق التى تنتج عشرات ومئات الأفلام سنويًّا، بموضوعات متنوعة، إلى دولة تنتج عددًا محدودًا من الأفلام التجارية التافهة؟ وعددًا أقل جدًّا من الأفلام المستقلة الجادة، متوسطة المستوى، وهذه الأفلام تحصد كل إعجابنا وتشجيعنا وحماسنا بالطبع.. يعنى حنودِّى الإعجاب والتشجيع المكبوت جوَّانا فين؟!

مهرجان الجونة شىء جميل، ولكن إنتاج أفلام مصرية جديدة أجمل، والمهرجان يحتاج إلى المزيد من الأفلام المصرية المهمة والمثيرة للجدل، وسيكون أنسب أن تتحدث النجمات على الريد كاربت الجميل عن أفلامهن الجديدة بجوار حديثهن عن فساتينهن الجديدة.

القليل الذى تقدّمه السينما حاليًّا بلا قيمة فنية كبيرة، والسينما لم تعد تقرأ التاريخ ولا تهتم بالجغرافيا، ولا تهتم بحكايات الإنسان المصرى الحقيقية، ولهذا تحول كل شىء فيها إلى استعراض خالٍ من المضمون، أو أعمال ترفيهية تفشل حتى فى التسلية.

انتهى مهرجان الجونة وبدأ مهرجان الإسكندرية، ولا يزال البحث جاريًا عن الأفلام المصرية، وتمر المناسبات التاريخية مثل حرب أكتوبر بلا جديد سينمائى.

نرشح لك: عمرو قورة يكتب: الجزيرة وأخواتها !

 سنكتب كل عام، ونندهش مع كل احتفال بانتصار أكتوبر، وهو أهم حدث عسكرى واجتماعى فى تاريخ مصر المعاصرة، بتوقف السينما عن البحث فى قصص وتاريخ حرب أكتوبر، ما قبل الحرب وما بعدها وما حدث خلالها، كيف كان يعيش الناس فى المدن فى أجواء الحرب؟ وكيف كانت تُدار العمليات داخل غرف الحرب؟ كل هذه مادة درامية مثيرة غائبة عن السينما المصرية.

فى أثناء مشاهدتى فيلم «Operation Finale» (عملية الحل الأخير) وهو إنتاج شركة «أوتوماتيك» وتوزيع شركتَى «مترو جولدن ماير» و«نتفليكس»، ومن بطولة بن كينجسلى وأوسكار إيزاك، وفى أحداثه مشهد يقوم فيه أحد عملاء الموساد بالأرجنتين بالسفر إلى تل أبيب، لإبلاغ رئيسه بشكّه فى اختباء «أدولف أيخمان» أحد كبار قادة النازية فى بيونس آيرس، وكانت إسرائيل، بعد إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، قد خصصت فريق اغتيالات يتتبع قادة هتلر الهاربين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأحداث الفيلم فى عام ١٩٦٠، و«أدولف أيخمان» هدف ثمين للغاية، فهو مهندس عملية التخلص من اليهود التى أُطلق عليها الحل الأخير، وهو القتل الجماعى لليهود، ولكن رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلى يرفض فى البداية إرسال فريق مراقبة وتتبع للتأكد من هوية الشخص المذكور، وكانت حجته أن جميع الأفراد لديه منهمكون فى عمل أهم وقتها، وهو مراقبة وكشف عمليات الفدائيين المصريين الذين كانوا يتسببون لإسرائيل فى إزعاج كبير، وخسائر لا تنتهى.

السؤال التقليدى الذى ثار فى ذهنى وقتها: لماذا توقفت السينما المصرية عن تقديم مثل هذه الحكايات؟ متى سنرى هذه القصص على شاشات السينما؟ على الأقل ستكون أكثر قيمة وإبداعًا وإنسانية من الحكايات السطحية التى قدمتها أعمال من نوعية «حرب كرموز» مثلًا.

ليس من الضرورى انتظار السينما المصرية لثروة تهبط عليها من السماء، لإنتاج فيلم ملحمى ضخم عن حرب أكتوبر، أو عن معارك الاستنزاف، أو العمليات الفدائية خلف خطوط العدو الإسرائيلى، هناك كثير من الحكايات التى تستحق أن تُروى، وتصور جزءًا مجهولًا من التاريخ، وتحمل قيمة درامية كبيرة، ويُمكن أن تكون مصدر إلهام عمل إبداعى سينمائى يبقى فى ذاكرة السينما التى تعانى حاليًّا ضعفًا كبيرًا بالذاكرة، وسيكون عملًا ملائمًا للعرض فى مهرجاناتنا والمهرجانات الدولية.

نرشح لك: حسين عثمان يكتب: لولا ساقية الزمالك ما كانت ساقية البروج

مشاهد المعارك الضخمة والانفجارات وإعادة محاكاة ساحات المعارك هو النموذج الهوليوودى التقليدى للفيلم التاريخى الحربى الملحمى، وهو نموذج لم تعد هوليوود نفسها تتبعه بعد أن أصبح الجمهور مولعًا بالتفاصيل الإنسانية اليومية أيام الصراعات، أكثر من مشاهد الدمار والدماء والانفجارات والأشلاء، وحينما قدَّم المخرج كريستوفر نولان، فيلمه «Dunkirk» (دنكرك) عن الحرب العالمية، اختار لحظات تاريخية أقل صخبًا، لكنها أكثر توترًا ورعبًا فى حياة الجنود على الأرض، وهى لحظات انسحاب جنود الحلفاء من ميناء «دنكرك»، وهى فترة كان التفوق الألمانى فيها مخيفًا، وهزيمة الحلفاء هى الأقرب، ورغم أن مشاهد المعارك كانت حاضرة فى الفيلم، فإننا لم نرَ مشهدًا لمصاب ينزف أو جندى يجرى محترقًا وزميله يزحف على الأرض بنصف جذعه العلوى فقط، وكان رؤية نولان الفنية تركز على حالة الحرب وقلق الانسحاب ورهبة الموت الذى قد يهجم فجأة.

أنسنة موضوع مرعب ومخيف مثل الحرب، يبتعد بالعمل الفنى عن أجواء البروباجندا، ويضع معاناة الجندى البشر فى الصدارة، وينتقل بالفيلم من مرحلة التباهى بالقوة والقدرة على تدمير الآخر، إلى تأكيد عبثية الحروب، وأهمية السلام.

الأفلام ليست مصدرًا لمعرفة التاريخ، ولهذا تركز الأعمال التاريخية السينمائية على التفاصيل الإنسانية، وهى محاولة إعادة تصوير المشاعر والأحاسيس والحالات الإنسانية بتنوعها وألوانها.

لو كانت حجة صُناع السينما أن أجهزة الرقابة والمؤسسات ستكون عائقًا أمام خروج أفكارهم بحرية على الشاشة، فهذا تخاذل مرفوض، ولو فكَّر عاطف الطيب بنفس الطريقة لما خرج فيلمه الجرىء «البرىء»، ولو تردد محمد خان لما أخرج فيلمه «زوجة رجل مهم»، ولو استسلم يوسف شاهين وخالد يوسف للمشاعر السلبية لما خرج فيلمهما «هىّ فوضى؟»، وتطول القائمة حتى تصل إلى فيلم «مولانا»، للمخرج مجدى أحمد علِى، الذى حاول كسر حائط جمود الخطاب الدينى المعاصر.

تفتقد السينما صانع الفيلم المثقف المقاتل، الذى يحارب من أجل وصول فكرته إلى الجمهور، وربما أضاف قانون إهانة الرموز المزيد من القيود على التناول الدرامى للشخصيات التاريخية، وأحداث التاريخ، ولكن الفن القوى الصادق الأصيل يستطيع تجاوز كل القيود، لو أراد، وإلا أصبحت السينما لدينا مجرد مهرجانات وريد كاربت وإطلالات للنجمات.

كيف يواجه أصحاب المكتبات حالة الركود في سوق الكتب؟