عمرو نبيل: على المصور الصحفي أن يرتدي طاقية الإخفاء

أمنية الغنام

سيظل للصورة الصحفية دائمًا وأبدًا قوتها وأثرها في تثبيت عنصر الزمن، وتسجيل وتوثيق لحظات من التاريخ لأحداث ووقائع من حولنا، تسمح لنا بفهم وقراءة العالم بشكل مختلف.. ولأن مهنة المصور الصحفي تجربة حافلة لها من الخصوصية ما لها، كان على “إعلام دوت أورج” أن يحاور عمرو نبيل رئيس شعبة المصورين في نقابة الصحفيين، والمصور في إحدى وكالات الأنباء العالمية، وواحد ممن برع في ممارستها.. وكانت تلك أبرز تصريحاته:

بدأت الحكاية مع امتلاكي لكاميرا وأنا صغير، التقطت بها صورًا لكل ما هو محيط بي من المناظر الطبيعية، أو عند ذهابي لحديقة الحيوان، وكنت أنبهر جدًا عندما يحضر والدي الجريدة في الصباح وأشاهد الصور، فيستهويني منها ما له علاقة بالحروب والمجاعات، ويلفت نظري قوة الصورة والتعبير الذي تعكسه، وأتساءل عن ذلك المصور الذي جاءته الجرأة ليذهب لمناطق حروب أو نزاعات ليوثق أحداث تاريخية ومن هنا بدأت أدرك معنى المصور الصحفي، وتشكّل حلم حياتي وعمري 8 سنوات بأن أكون مصورًا صحفيًا في إحدى الوكالات الإعلامية.

مع بدايات الشباب كنت أتابع بشغف نشرات الأخبار، لأشاهد صور فاروق إبراهيم المصور الخاص للرئيس السادات، وهو يتحرك حاملًا معه أكثر من كاميرا، وينبطح أرضًا لالتقاط صورة للعلم المصري بشكل معين أو إظهار زاوية أخرى للسادات، وكنت في غاية الحرص لإحضار الصحف في اليوم التالي ومتابعة صوره والتعلم منها، وهذه بداية انبهاري بالتصوير الصحفي.

في فترة الثمانينيات لم يكن واضحًا أي الكليات التي تتيح دراسة التصوير الصحفي تحديدًا، لذلك انضممت لكلية الفنون الجميلة، ودرست التصوير الفوتوجرافي عامة، وبدأت تحديث كاميراتي وأصبحت مشهورًا داخل الكلية بصوري، وقرأت كثيرًا في مجال التصوير ونفذت كثيرًا من أشكاله التي أصقلت موهبتي فيما بعد.

حين كنت طالبًا في الكلية كانت لي جارة صحفية في جريدة الوفد، أتاحت لي أول فرصة للعمل كمصور صحفي، إذ توليت تغطية ترميم جامع محمد علي في العام 1987، وكان رئيس قسم التصوير في الوفد وقتها عبد الوهاب السهيتي، الذي أبدى إعجابه بعملي جدًا وطلب مقابلتي، وكان من الشخصيات التي أعطتني دفعة في حياتي، ومن وقتها وضعت نفسي في إطار المصور الصحفي.

نرشح لك: ١٦ تصريحًا لـ مصطفى رحمة.. مبتكر شخصية “كسلان”

صادف بعد ذلك وفي أثناء مشروع تخرجي أن جاءتني فرصة للعمل في الصحيفة السعودية “عكاظ”، لكن أجّلت كل شيء حتى تخرجي وإعلان النتيجة، وتجدد عرضهم لي مرة أخرى في 2/8/90، وصادف هذا يوم غزو العراق للكويت، وكان أول حدث كبير أصوّره هو القمة العربية التي عقدت في 10 أغسطس 1990 في أعقاب ذلك الغزو، وأعتبر تلك الخطوة من المراحل القدرية في حياتي.

من محطاتي التي لا تنسى تلك الصورة التي التقطها في أحداث زالزال أكتوبر 92، حيث يقع مقر صحيفة “عكاظ” أمام إحدى المدارس، ومع حدوث الزلزال خرجت مسرعًا ووجدت أبواب المدرسة وقد فتحت، وخرج منها عشرات الأطفال وهم في حالة خوف وبكاء، والتقطت العديد من الصور، بينها صورة لتلميذة منهارة تماما وعروقها منتفضة وتحتضن شقيقتها الصغيرة، هذه الصورة كان لها صدى كبير وتداولتها الوكالات الأجنبية، وارتبطت عندي بواقعتين كان لهما الأثر الطيب في نفسي، أولها عندما كنت أقوم بتكبيرها في أحد المعامل بالمهندسين، وجدت العامل يقول لي إنّ هناك من يريد لقاءك في الطابق العلوي، وحين صعدت فوجئت بالأستاذ فاروق إبراهيم وهو ممسك بصورتي، واندهشت ولم أصدق عيني وأذني حين قال لي: “الصورة دي من أقوى الصور التي رأيتها عن الزلزال، هيكون ليك مستقبل كبير”.

وبعد سنوات وفي العام 2007، حين أسست شعبة المصورين في نقابة الصحفيين، كان الأستاذ فاروق إبراهيم من بين الشخصيات الصحفية التي كرّمت، ومنذ تلك اللحظة نشأت بيننا صداقة قوية وتواصل حتى آخر أسبوع قبل وفاته في 2011.

أما الواقعة الأخرى تمثلت في أخذ إحدى الوكالات الأجنبية هذه الصورة، ونشرها صفحة أولى على معظم صحف العالم، لأنها تحمل ملامح الإنسانية والفزع عند الطفولة وقت الزلزال.

في العام 1995 قبلت عرضًا للعمل في وكالة الأنباء الفرنسية، وهنا أتيحت لي الفرصة لتغطية حرب إريتريا وإثيوبيا من الجبهة الإريترية، وهو نزاع كان يتجدد في فترات معينة من الصيف مع نشاط تجار الأسلحة، كان الوضع غاية في الصعوبة لأنني كنت أستخدم جهاز اتصال بالقمر الصناعي ضخم جدًا في قلب الغابة أو الصحراء، وأوجهه بالبوصلة وأستطيع منه إرسال الصور والإشارت، الوضع اختلف الآن تمامًا مع التطور المذهل للتكنولوجيا الاتصال.

من الصور الأخرى التي أعتز بها هناك، تصويري للحظة الإفراج عن الأسرى الإريتريين على الحدود الإثيوبية.

ما كنت أتطلع إليه بإعجاب وأنا صغير فيما يتعلق بمن يصوّر مناطق النزاعات والمجاعات، تحقق لي خلال مسيرتي، حيث توليت تغطية العديد من حوادث الإرهاب والفتنة الطائفية في محافظات الصعيد، وتفجيرات البنوك وأزمة دارفور في السودان، ومعسكرات اللاجئين والحرب في العراق، وانفجارات طابا وشرم الشيخ والأردن.

أقعدني جدًا وأثر في مسيرتي التصويرية، إصابتي أثناء تغطية انتخابات مجلس الشعب في العام 2005 بطلق مقذوف في عيني اليمنى، ما أفقدني الإبصار بها تمامًا، جبت العالم لعلاجها حتى قيل لي إنّها حالة ميؤوس منها، ما جعلني أكثر حرصًا لعدم التعرض لأي مخاطر في أثناء تأدية عملي. كنت وقتها في الزقازيق بمحافظة الشرقية في إحدى لجان الدوائر الانتخابية، وهي المعهد الفني، وهذه اللجنة كان فيها محمد مرسي وكان زعيم الكتلة البرلمانية، وحدثت حالة من الشغب بين مؤيديه ومعارضيه، وعمّت الفوضى والبلطجة في محاولة لمنع الناس من الإدلاء بأصواتهم باستخدام المولوتوف -كانت المرة الأولى لي في حياتي التي أرى فيها المولوتوف- وفي أثناء التصوير أصابني المقذوف.

أنا مؤمن أن المصوّر الصحفي يجب أنّ يكون له دور إنساني، فلا أنسى أبدًا حين كنت في بغداد وقت الحصار، وفي أثناء استماعي للراديو علمت بحالة توأم عراقي يعاني الالتصاق من منطقة البطن، وبعد معرفتي بأسمائهم لجأت لأحد الزملاء لمساعدتي في الوصول إليهما، وفعلًا نجح في أن يرتب لي موعدًا في أثناء فحصهما بالمستشفى، والتقطت لهما العديد من الصور التي أحدثت ضجة كبيرة عند نشرها، ولأنه موضوع إنساني ساعدت زملائي المصورين الآخرين للوصول إليهما والتوسع في نشر قصتهما، عل وعسى تأتي الاستجابة، وبالفعل جاء اتصال من مكتب أحد أمراء دولة الإمارات العربية المتحدة، ليخبرني بأنه سيرسل طائرته الخاصة للسفر بهما وفصلهما في أي مكان بالعالم والتكفل بكل شيء. للأسف لم أعرف عنهما شيئًا بعد ذلك، وأتمنى الوصول لهما الآن وقد بلغا نحو 15 عامًا.

من الصور العزيزة على قلبي تلك التي التقتطها للملاكم العالمي محمد علي كلاي وأنا طالب في الكلية، وكان نزيلًا في فندق الماريوت، ورسم له أحد أصدقائي في الكلية بورتريه على ورق بردي مكتوبًا عليه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ذهبنا إليه وأهديناه هذا الرسم والتقطت له الصورة.

التقطا صورًا للعديد من الشخصيات السياسية، أمثال الرئيسين الأمريكيين بيل كلينتون وباراك أوباما، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أثناء زيارته للهرم، وشخصيات فنية مثل الفنان يحيى شاهين والفنانة تحية كاريوكا، وصور أخرى للمشاهير مثل باريس هيلتون، التي كانت شديدة الحرص على منع التصوير في أثناء زيارتها للأهرامات، لكنني تحايلت واستطعت الدخول بكاميرا بعدسة واحدة صغيرة كأنني سائح متجول في المنطقة، وصوّرتها وهي تركب الجَمل.

في يوم 3/7/ 2013 مع سقوط الإخوان، التقطت صورة مميزة جدًا، نظرًا لصعوبتها الفنية الكبيرة، حيث إضاءات الكاميرات التلفزيونية في الميدان مهولة، والألعاب النارية في السماء ضوؤها خافت، فأيًا كانت الناحية التي تحاول ضبط إضاءتها سيؤثر ذلك على الجانب الآخر، فلجأت لطريقة بدائية جدًا تشبه الطرق المتبعة في المعامل وقت الأبيض والأسود، إذ ظلّلت بيَدي قليلًا على الجزء الفاتح الخاص في الميدان وأنا مرتديًا لجراب أسود لأسمح بظهور الألعاب النارية، هذه الصورة تصدرت الصحف العالمية كصورة تاريخية توثّق للحدث.

منهجي في التصوير والذي أحاول إيصاله في أثناء تنظيم دورات للصحفيين الجدد من شعبة المصورين، تتلخص في جملة واحدة، عليك أن تعمل بمنطق طاقية الإخفاء، لا نتكلم لا نسمع لا يشعر بوجودنا أحد، حتى تكون صورك معبرة عن الأحداث على طبيعتها ودون أدنى تدخل منك. ودائمًا ما نؤكد ضرورة التمسك بأخلاقيات العمل الصحفي والصورة الصحفية، وعدم التلاعب بالفوتو شوب أو التدخل في صناعة الصورة نفسها، كما يفعل للأسف البعض من الزملاء، فهذه تعد جريمة.

كنت معتمدًا من الوكالة الأجنبية التي أعمل بها كمصور للرئاسة مدة 18 عامًا، وأذكر موقفًا طريفًا كنت فيه أرتدي حذاءً جديدًا، ومع الدخول السريع للقاعة لالتقاط صورة للرئيس مبارك مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، زلّت قدمي ووقعت، فما كان من مبارك إلاّ أن قال لي “قوم قوم ما يقع إلا الشاطر”.