أحمد سعيد.. رحل قبل ذكرى أصعب أيام حياته

إيمان مندور

قبل ساعات قليلة، رحل عن عالمنا الإعلامي أحمد سعيد أحد أهم رواد العمل الإذاعي في مصر ومؤسس إذاعة “صوت العرب”، عن عمر يناهز 93 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا كبيرًا في تاريخ الإذاعة المصرية، منذ أن التحق بها قبل نحو من 60 عامًا.

القسم الأكبر من السيرة الذاتية لـ سعيد يعد جزءًا من حقبة تاريخية هامة مرت بها مصر، فأصبحت سيرته حدثًا يُروى في كتب التاريخ، نظرًا لدوره في الأحداث التي شهدتها مصر، وتحديدًا إبان فترة نكسة 1967، والانتقادات الحادة التي وجهت له وقتها ولا تزال حتى الآن، حيث اعتبر المسؤول عما حدث للجماهير العربية من تضليل بشأن الحرب.

لكن بالعودة للبداية والنشأة قبل الدخول في الأحداث السياسية الهامة في حياته، نجد أنه التحق في بداية حياته المهنية بالصحافة، حيث عمل في مؤسستي “أخبار اليوم” و”دار الهلال”، ثم اتجه للمحاماة بعد تخرجه من كلية الحقوق، ومنها إلى العمل في الإذاعة في مارس 1950، كسكرتير قانوني لأول مدير مصري للإذاعة.

نرشح لك: خطاب لوزير الثقافة السعودي بسبب الإساءة لـ عبد الناصر

بعد عامين من العمل الإذاعي، وتحديدًا في يناير 1952، تم إبعاده عن العمل بالإذاعة، بعد حريق القاهرة، حتى مايو 1952، بعد اتهامه بأنه أحد الذين أثاروا الجماهير. ثم عاد إلى عمله مرة أخرى وعُين مذيعًا رئيسيًا منذ انطلاق برنامج صوت العرب عبر إذاعة القاهرة ومديرًا لإذاعة صوت العرب عند تأسيسها عام 1953، وحتى عام 1967.

الواقعة الأبرز في مسيرة الراحل أحمد سعيد، هي ما حدث يوم 5 يونيه من العام 1967، ففي الوقت الذي تدك فيه قوات وطائرات العدو، الأراضي المصرية، أعلن سعيد، عبر إذاعة “صوت العرب” انتصار الجيش المصري، وأذاع بيانات عسكرية “كاذبة”، يؤكد فيها أن الجيش حقق انتصارًا ساحقًا لمصر، بل ونجح في إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، وذلك على غير الحقيقة بالطبع، لأن الجيش الإسرائيلي قصف الطائرات المصرية وهي على الأرض قبل أن تقلع من المطارات. وظل الشعب مخدوعًا في المعلومات والبيانات التي يلقيها “سعيد”. حتى جاء يوم 9 يونيه 1967 وخرج جمال في خطاب جماهيري معلنًا الخسارة في الحرب ونبأ استقالته.

ورغم التعاطف الشعبي مع ناصر وقتها، إلا أن الغضب كان ولا يزال لدى البعض تجاه ما أعلنه “سعيد” من بيانات مضللة، لكنه برر أكثر من مرة ما حدث، مؤكدًا أنه أوقف على مسؤوليته الشخصية، إذاعة البيانات العسكرية بعد ثبوت تعرض البلاد للهزيمة عام 1967، وثبوت كذبة إسقاط مصر لـ76 طائرة عسكرية إسرائيلية، رغم ما في هذا الموقف من تعريضه للمسؤولية القانونية والسياسية.

وأوضح في مذكراته أنه “فوجئ ظهر يوم 5 يونيه بمراقب بقسم الاستماع السياسي، يتصل به وهو في حالة بكاء وانفعال تصل الى حد الجنون، وهو يقول له (ما الذي تذيعونه، جميع وكالات الأنباء العالمية تقول إن الجيش الاسرائيلي ضربنا، وبدأ يخترق سيناء وهم يذيعون معلومات مخالفة تماماً لكل بياناتنا”.

تابع سعيد: “اتصلت بالقيادة فردّ علي ضابط وقال لي “لا تصدق”، لكنني لم أقبل رده وأصررت على وجود تناقض، خصوصاً بعدما عنونت جريدة (الأخبار) عن سقوط 76 طائرة إسرائيلية، وأمام هذا التضارب وعدم وضوح الحقائق قررت منع إذاعة بيانات جديدة، على الرغم من أن هذه الخطوة كانت مخالفة للقوانين أثناء الحرب، لكن المفاجأة بالنسبة لي هي أنه لم يكلمني أحد عن هذا المنع، ولم يسألني لماذا لم تذع، وعندما اتصلت بالوزير محمد فايق أخبرني أنه ليس لديه تعليمات، وهو محتار مثلي”.

استطرد في الدفاع عن نفسه قائلاً إنه رغم كل الانهيار وجه نداء بناءً على طلب القيادة العسكرية للقوات المصرية التي دخلت سيناء، والتي كان ضمنها 2000 جندي من قوات الصاعقة مكلفين بعمليات فدائية داخل اسرائيل، بالتعاون مع فدائيين فلسطينيين، كما وصلت النداءات لسورية شعباً وحكومة وجيشاً، لمواصلة المعركة لتخفيف الضغط على القيادة المصرية، مضيفًا: “وظللت أفعل ذلك إلى أن ضرب الطيران الإسرائيلي القوات الملتحمة قرب خط متلا”.

في الحقيقة، الاتهامات التي وجهت لـ”سعيد” بسبب تلك الواقعة طوال حياته، كانت زائدة عن الحد بدرجة كبيرة، فهو ليس مسؤولاً كإعلامي عن التضليل بشأن الهزيمة، والمهنية تتطلب أن يقرأ بأمانة ما يصله من القيادة من بيانات، لكن ما يثبت وطنيته أكثر أنه عندما أحس بأن هناك تناقضًا بين ما يذيعه وما تقوله كل الوكالات العالمية، اتخذ القرار الصحيح بوقف إذاعة البيانات.

المفارقة الأكبر أن حادثة النكسة التي نالت قسطًا كبيرًا من حياة أحمد سعيد، كانت قريبة له في موته أيضًا، فرحل قبل يوم واحد من ذكراها الواحدة والخمسين، وكأن القدر يأبى إلا أن يقرب المسافات بينهما في الحياة وحتى عند الموت.