سماء زيدان تكتب: كنت في باريس

ذهبت إلى باريس واستقبلتني بحرارة العاشقين.. هكذا أحكي لأصدقائي عنها فحكاياتي عن المدن تختلف، وكلما زرت مدينة وصفتها بما وهبتني من جمال.
كان طه حسين طوال الوقت حاضرا في ذهني هناك بسيرته ربما لأن ما نقرؤه في السنوات الأخيرة عن الهجرة إلى باريس لا تحكي سوى عن تجارب الشقاء والاغتراب والضياع، وربما لأنه أنصف باريس، قال عميد الأدب العربي عن باريس: «تبقى باريس بلد الجن والملائكة»، ما إن تطأ بقدمك شوارع باريس في الليل حتى تتنفس عطرا، أنت في مدينة العطور حقا.
تمتلئ روحك بحثا عن الجمال في كل تفصيلة من تفاصيل الشوارع والحياة اليومية.. في مقبض شباك لأوتيل قديم، في ورود تباع في أنفاق المترو، في أنغام متسول عابر يعزف الفلوت وينهي لحنه بإصرار حتى وإن لم يجد المقابل، في وجوه المحبين والعاشقين وأقفالهم المعلقة في الكباري المغلقة على أمانيهم، تساءلت كثيرا وماذا يتمنى الإنسان بعد العيش في باريس مع من يحب يا لطمع العاشقين!
هناك تبحث عن الجمال وتجده في أضواء الليل وأنسام التاريخ ، في جذوع الأشجار التي هي أكبر من قطر ذراعيك التي لا تكمل دائرة لاحتضانها ، وفي الأزقة في لوحات الرسامين فوق الأرصفة وفي رائحة المخبوزات الطازجة في بواكير الصباح وأصوات فتح الدكاكين، في ابتسامات تتلقفها كسائح عابر من وجوه تعبة في مساءات ايام العمل.
كم مرة أضعت طريقي وأضعت محطة المترو التي يجب أن أخرج منها وفق مخطط العزيز “جوجل” الذي رسم لي جدولا بالأماكن التاريخية والمزارات والمتاحف وكتب لي أماكنها فوق الخريطة وعنوان محطة المترو وساعات الدخول بل وأسعار التذاكر ومواعيد العمل
في كل مرة كنت أجد من يساعدني غالبا من كبار السن، الشعب الفرنسي ودود، الشباب عادة يضعون السماعات في اذانهم ولا يلتفتون لك، كبار السن كانوا الأكثر تعاونا ومودة، والمهاجرون أيضا، تعرفهم من وجوههم وملامحهم التي تشبهك، عربي أنا وشرقي لا تنسى ملامحنا الواحدة، المهاجر دائما مهموم بشئ في خاطره، أنت تعرف لكنه مرحب بك وبمساعدتك، الغريب أن السائح مثلك هو الأكثر إعراضا عن المساعدة لا يملك الوقت لغيره.
كنت كلما أضعت طريقا وجدت أنه كان من حسن حظي إذ وجدت فيه متحفا او مزارا مصادفة، في كل طريق متحفا أو متحفين بعضها لا يتبع الدولة بيوت وعمارات لملاك قديمة تحولت إلى متاحف بمقتنياتها الفريدة وبعض اللوحات الأصلية والتحف النادرة، كل شيء في باريس يمكن أن يصبح مصدرا للدخل والثراء. الفن أكبر مصدر للثروة يعرفون هذا بالتأكيد الجمال له سعر وسعر باهظ مثل الحب ندفعه طواعية وباستمتاع.
في أروقة المتاحف ولنهارات متتالية كنت أبقى متسمرة أمام لوحة أو قطعة فنية بالتأكيد لن أمتلكها يوما وقد تضيع تفاصيلها وملامحها من ذاكرتي كنت أود أن تبقى بداخلي وأبقى بداخلها وأبتكرت طريقتي الموصوفة لتخليد تلك اللحظة، أن التقط معها صورة! الكثير من الصور لها حكايات وكلما تأملت ذراع فينوس أو أصبع تمثال زيوس أو عين الموناليزا ستتذكرها. تصوير التحف يغنيك عن اقتنائها فينسنت فان جوخ الآن بين أيدينا.
من أول يوم وصلت باريس كان السؤال لماذا القاهرة القديمة تشبه قلب باريس؟! الخديو إسماعيل عاش وحلمه الأزلي أن يري القاهرة قطعة من باريس، وخلال زيارته إلى باريس عام 1867، طلب من الامبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسي “هاوسمان” الذي قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية وتبدأ من كوبرى قصر النيل حتى منطقة العتبة وما حولها من طرق وبما حوته من أبنية منها دار الأوبرا التي احترقت عام 1971.. تصميم وتنفيذ المشروع استغرق خمس سنوات فقط ونجح هاوسمان فى تحويل القاهرة إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم، ليطلق عليها كتاب الغرب حينذاك “باريس الشرق” .
دار الأوبرا القديمة في باريس قصر من القصور الكلاسيكية تحفة معمارية كل شئ يضوي في باريس يعرفون قيمة ما يملكون. وصلت متأخرة بدون حجز فإذا التذكرة قبل ميعاد الدخول بنصف ساعة أقل في قيمتها بعشر مرات من الحجز المسبق في كل الحالات سيبقى المقعد خاويا فلماذا لا يقلل قيمته بدلا من إهداره، وهكذا في كل شئ يفعلون حتى في محلات الحلوى آخر النهار.

في باريس حضرت عرضا مسرحيا لموليير في مسرح مثل كثير من أبنية باريس التاريخية والتي تذكرني بقلب القاهرة القديمة. العمل كوميدي عن مريض بالوهم قرأت حول العمل أنه كان آخر ما كتب موليير وأراد به الانتقام من الأطباء بعد موت صديقه أراد أن يقلل من هيبة الأطباء ولجوء العامة لهم وأعتقد نجح.. ما أعجبني حقا أنه كان يوم عطلة وكثير من الآباء والأمهات يصطحبون أولادهم للمسرح مشهد لم نعد نراه كثيرا في بلادنا بالتأكيد سيسأل الطفل من هو موليير؟ ولماذا يرتدي الأطباء في المسرحية هذا اللباس الأقرب للباس الكهنة؟ وكيف يمكن للمريض أن يشفى بالإيحاء؟ وما معنى الوهم وما هو الوهم المقصود من المؤلف في المسرحية؟ بالتأكيد سيخرج من وراء سهرة كتلك أديب أو مفكر.

نرشح لك : تعرَّف على عدد مؤلفات نجيب محفوظ لدى “دار الشروق”

بالقرب من الحي اللاتيني كانت مكتبة شكسبير في قلب العاصمة الباريسية تناضل لتبقى منافسة كدار نشر وملتقى كتاب من كثير من بلدان أوروبا لا تختلف كثيرا عن غالب مكتبات القاهرة العريقة في وسط البلد حتى أن استقبال الكتاب وفعاليات التوقيع تقام في مساحة لا تتعدى خمس صفوف ويقيمون في الدور العلوي أحيانا ويتطوع الشباب للإقامة والمبيت وفق حجز سنوي، تتحرك باحتراس وسط روائح الكتب القديمة والأرفف المثبتة من كل جانب والمكدسة بمئات الكتب والمجلدات القديمة والإصدارات الجديدة تسمع آلاف الأصوات تهمس لك من الكتب وزوار المكان.

يبقى سحر مدينة باريس، الأكثر تأثيرا على أجواء مكتبة   Shakespeare and company. في فعالية ءدبية حضرتها قدم أحد الكتاب الشباب الإنجليز نفسه بلغته الأم، وقرأ بعضا من أشعاره وتولى ناشره الترجمة للحضور باللغة الفرنسية. هنا يُحتفى بالفن والأدب وبالتجربة الإنسانية أيا كانت، ما دامت تحمل صدقا وتعبيرا عن نفسه وغيره من البشر ويبقى ما تدفعه زهيدا ثمنا للأوراق والطباعة، يعرفون للمبدع قيمته ويقدرون معنى أن القارئ  يشارك الكاتب في تجربته الإنسانية  والتي لا تقدر بثمن.

باريس مدينة كل شئ تبحث عنه، المحلات الشهيرة ذات وجوه الباعة المتعالية والتي غالبا لا يدخلها إلا الأثرياء ومحال الأزقة والتي يرحب بك غالبا صاحبها وتحذر من ابتسامته لأنها ستكلفك الكثير وأنت في نشوة الترحيب حتى وإن حاولت تحريك السعر وغالبا تنجح لكنها تبقى أسعار سياحية.

بالتأكيد بعضكم قرأ رواية العطر الشهيرة كونها أول الإبداعات الروائية لمؤلفها باتريك زوسكيند، والتي تحولت إلى فيلما سينمائيا، كانت تلك الرواية بتفاصيلها ومشاهدها ووصفها لباريس والحياة فيها في مخيلتي طوال زيارتي لباريس، حتى وأنا في متحف اللوفر العريق وبين أشهر لوحات الفن وأزهى عصوره أو في قصر فرساي وحدائقه وفي أقبية صناعة العطور وفي كنائس باريس وألوان زجاج نوافذها وفوق أبراجها ذات الأحجار العتيقة لم أستطع إبعادها.

تدور أحداث الرواية في القرن 18 في فضاءات باريس وأوفرن ومونبيلييه وكراس. تروي “العطر” سيرة حياة جان باتيست غرونوي، الشخصية الغرائبية المنبثقة من عوالم باريس السفلية والمتملكة لحاسة شم إعجازية. تسرد الرواية تطور حياة صانع مستخلصات العطور غرونوي وكيف غدا إنساناً مجردا من مفهومي الخير والشر، لا يحركه إلا أغوار العطور والروائح، يقتل ضحاياه من الحيوان والبشر لاستخلاص روائحهم.جرنوي الذي ولد وسط زفر الأسماك وأحشائها، كادت أمه تقتله وسط أكوام القمامة في سوق السمك كما فعلت بصغارها قبله قبل أن تُعدم لقاء جرائمها، هو ذاته صائد الروائح العطرية، ذو الأنف الرهيف صانع العطور، القاتل نهما في التهام روائح البشر.

تلك هي باريس فيها كل الجمال وما زالت جائعة للمزيد، تجتمع فيها كل مستخلصات الجمال وتتسع للمزيد، يقولون في السفر سبع فوائد وأنا أقول إن فائدة واحدة منه تكفي.. من السفر اتضح لي أن الأدب والفن أعمق فلسفات الوجود؛ فهو أكبر أثرا حتى من الرياضيات والعلوم البحتة، الأدب والفن خيط رفيع بين الواقع والخيال نعبره نحو الأبدية فنرى بعده أن الجمال لغة تقرأ بغير ترجمة وإن كانت في الحجر..