رأي هؤلاء الأربعة في سيد درويش.. 126 عامًا على ميلاد فنان الشعب

نرمين حلمي

عاش خادم الموسيقى، وفنان الشعب، ودرويش الغناء الإسكندراني الراحل، الشيخ سيد درويش، 31 عامًا، قدم فيهم تراثا فنيا وموسيقيا عظيما، نجح في مواساة أهل الفن مِن بعد رحيله، فبالرغم من صغر سنه إلا أنه قد قدم زخرًا فنيًا لا مثيل له، فأثر في أجيال القرن العشرين وما زال يتتبع خطاه أبناء القرن الواحد والعشرين.

ولد “درويش” في 17 مارس 1892،وبعد تعلمه واتقانه العزف على العود تفجرت موهبته الموسيقية وقدم إنتاجا فنيا هائلا حيث تعاون مع كل الفرق المسرحية بشارع عماد الدين مثل فرقة الريحاني وعلي الكسار، وإن احتسبنا مشواره الفني، كشارع طويل، وعميق، لا يُفنى أثره ولا يُضل مَن يخطوه، فنجد الكثير من الحكايات التراثية، مِن قاطني وزائري هذا الشارع الموسيقي.

وفيما يلي يرصد “إعلام دوت أورج”، في ذكرى ميلاده الـ 126، أبرز ما قيل عن “درويش” الموسيقى ومسيرته الفنية:

نرشح لك: 86 عامًا على ميلاد سميحة أيوب التي وجد فيها “سارتر” ضالته

“زقزقة” درويش في قلب الريحاني

لقب الفنان الراحل نجيب الريحاني صديقه الملحن الراحل سيد درويش بالـ “غريب على الأرض”؛ حيث كان متعلقًا بفكرة الموت بدرجة كبيرة وكان يكرر الحديث عنه في أغلب حواراته حتى في مجال المرح والسرور، فضلاً عن أنه كان قد أهدى “الريحاني” صورة شخصية له وكتب عليها إهداءً، “مِن ميت يُهدى إلى أموات”، مشيرًا إلى الذكريات الكثيرة، التي كانت تجمعه معه، وتحمل في ثناياها لحظات الود والإخلاص والتقدير والمشاحنات والغضب والرضا والضحك وغيره، واصفًا روحه بالشفافة الرقيقة، التي كانت تثور وتفرح بلغة الأرواح، لغة الموسيقى.

على الرغم من فكرة تشاؤمه الدائم، إلا أن “درويش” كان يلجأ للموسيقى حتى في أشد الأوقات ظلمة بالنسبة له، فبحسب ما روى “الريحاني” في تسجيل إذاعي قديم له، عن تفاصيل خلاف قديم دار بينهما، وكيفية القضاء عليه، وكان أبرق دليل على شغفه الموسيقي؛ حينما اجتمعا في منزل أحد أصدقائهما ليصالحهما، وأخذت حدة الحوار تشتعل بينهما، إلى أن زقزق عصفور “كناريا” كان يربيه صديقهما في منزله، وزقزق معه عقل الشيخ “درويش”، بحسب وصف “الريحاني”، فقفز مسرعًا، واتجه ليطفأ نور الغرفة، ومن ثمً امسك بالعود وأخذ يعزف ويغني، وانصت كل الجالسين على الفور له، منتقلين إلى عالم اَخر، حتى انتهى وأضاء الغرفة من جديد، ورأى “الريحاني” دموعه على وجهه، فتأثر الأخير وانهمرت دموعه أيضًا، وقرر أن يقبله ويصالحه، دون لوم أو عتاب.

الحفيد وسر البقاء

تحدث الفنان إيمان البحر درويش سابقًا عن سر خلود أغاني جده سيد درويش، وقدرتها على التواجد في أزمنة مختلفة، معيدا الفضل في ذلك إلى “عبقرية” درويش في تفكيره فيما سوف يقدمه وليس فيما قدمه من قبل؛ مشيرًا إلى أنه كان دائم البحث عن تقديم كل ما هو جديد، حسبما كان “سيد” يرى أن الرؤية الإبداعية دائمًا تتمثل في القدرة على التجديد والابتكار.أوضح “إيمان” خلال حواره مع الإعلامي عمرو الليثي، مقدم برنامج “بوضوح”، على فضائية “الحياة”، أن جده قدم التجديد في الموسيقى والغناء، من خلال التعبير عن الكلمات، فضلاً عن التجديد في السرعة والإيقاع، والمواضيع التي يتناولها من خلال الأغاني التي يقدمها في ذلك الوقت، قائلاً: “سيد دروش بقاؤه في المواضيع اللي بيغنيها، وفي المزيكا اللي كانت سابقة عصرها بشكل كبير جدًا”، مشيرًا إلى أنه كان شخصية متميزة على الصعيد الفني والإنساني، ساردًا ما رواه له والده عن محبوبة الشيخ “سيد”، التي شهدت أغلب أغانيه على ما حمله من مشاعر حقيقة لها، ووصل للجمهور إحساسه عبر أعمال “أنا عشقت” و “أنا هويت وانتهيت” و”ضيعت مستقبل حياتي”، حيث إنها قالت له ذات يوم، حينما طلب منها أن تخبره بشيء مميز ولا يعرفه أحد غيرها، واصفة له ما تكنه لـ “درويش”، قائلة: “أنا عرفت رجالة بعدد شعر رأسي، ما شوفت راجل زيه في كل حاجة”.

مخاطبة العقل والحس

أعاد الفنان الراحل محمد عبد الوهاب، الفضل لـ “درويش” في تطوير ألوان الغناء المختلفة، من تواشيح وأغاني خفيفة وأغاني شعبية ومسرح، مشيرًا إلى قدرته في استخدام الأسلوب التعبيري في ألحانه حتى في الأدوار التقليدية الكلاسيكية التي لحنها.

فكتب “عبد الوهاب” في كتابه “رحلتي”، عن سيد درويش وأدواره في الفن العربي وأفضاله، واصفًا حالته وما قدمه: “يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن، إن سيد درويش فكر، تطور، ثورة، فسيد درويش هو الذي جعلني أستمتع للغناء بحسي وعقلي، بعد أن كنت أستمتع بحسي فقط، إنه فكرة العصر التي لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذي يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقة للأعمال المسرحية”.

عالمية “درويش”

كان “درويش” يرى أن الموسيقى، لغة عالمية، ويقول أننا نخطئ عندما نحاول أن نصبغها بصبغة محلية، مشيرًا إلى أنه يجب أن يستمع الرجل اليوناني والرجل الفرنسي والرجل الذي يعيش في غابات أواسط أفريقيا إلى أي موسيقى عالمية فيفهم الموضوع الموسيقي ويتصور معانيه، وهو الأمر الذي كان ينادي به، ويمكننا الاعتراف بانه قد حدث بالفعل على يد “درويش” وموسيقاه، حسبما تأثر به الكثير من غير المصريين وأعجبوا بنغماته وألحانه.

فبحسب ما ذكر الملحن زياد الرحباني، في إحدى لقائته التلفزيونية مع الإعلامية منى الشاذلي، فإنه قد لاقى خلال إحدى جلسات عمله في استديو بألمانيا، حفاوة وإعجاب وتساؤلات عديدة حول ملحن أغنية “زوروني كل سنة مرة”، وعن هويته وجنسيته، من قِبل مهندس صوت ألماني، في ذاك الاستديو، مشيرًا إلى أنهم طلبوا سماعها عدة مرات بعد التعرف إلى شخصية المؤلف المصرية من خلال ما يرويه لهم “الرحباني”.

https://www.youtube.com/watch?v=AECX2jVLF2M

مرثية بديع خير

“لو نسيت روحي، يجوز أنا أنسى روحي، إنما “سيد” لا أنساه يوم في عمري”، بهذه الكلمات استهل رائد المسرح بديع خيري مرثيته للفنان سيد درويش، معربًا عن قوة العلاقة الوطيدة التي جمعتهما معًا، بالرغم من قِصر عمرها.

تعاونا معًا في عشرات الألحان التي تناولت قضايا سياسية واجتماعية شديدة المصرية، إلى جانب عدة أعمال أخرى متنوعة، مثل: “الحلوة دي”، و”حرّج عليّا بابا”، و “الحشاشين-التحفجية”.

ولكن علاقتهم القوية لم تكن أعمالهم الفنية فحسب، بل كان بينهما علاقة مودة وصداقة يُشهد لها، فمن القصص الطريفة التي حدثت بينهما رغم سوداوية الموقف، عند وفاة والد بديع خيري، هرول “درويش” إليه ليؤدي واجب العزاء، بصحبة باقة من الورود، ومن ثمُ ذهب للكنيسة، وجلس منتظرًا مراسم العزاء، إلى أنه تفاجأ بأنه لم يأتِ بعد، فقرر الذهاب إلى منزله، فاستعجب الحاضرين مما يحمله “درويش” في يده، إلى أن برر لهم موقفه، باعتقاده المسبق بأن مراسم العزاء ستتم في الكنيسة، بعد أن أكتشف للمرة الأولى أن بديع خيري مسلم.