الإبداع الفني بين سيف "الأعلى للإعلام" وتهاون "المصنفات الفنية"

إيمان مندور

الإبداع شرط حيوية وديمومة الثقافة، لكن لا إبداع بدون حرية، ولا حرية فيما يضر، لذا شددت القوانين في كل الدساتير في العالم على وضع إطار من الضوابط المحددة للحريات والتي تختلف من مجتمع لأخر، لكنها تبقى دومًا شاهدًا على الصلة الوثيقة بين الإبداع الكامل وحرية التعبير التي ينبغي أن تتسع له.

وعليه، فإن الضوابط التي تحكم الإبداع الفني في مصر تحددها جهات رقابية متنوعة، صحيح أنها تسببت في العديد من الأزمات على مدار عقود كثيرة، لا سيما عند منع عرض بعض الأعمال الفنية أو حذف أجزاء منها، لكن القصد من الرقابة في الأصل هو “حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”، وفقًا لما تنص عليه المادة 1 من القانون رقم 430 لسنة 1955.

مؤخرًا وخلال أقل من عام على تشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام برئاسة الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، أثيرت أزمات عديدة بسبب تدخل المجلس في المحتوى الفني المُقدم في بعض المواد الدرامية والإعلانية، وكذلك بسبب إجراءاته الرقابية التي يفرضها من حين لأخر، والتي انتقدها كثير من القائمين على المجال الفني عمومًا، بسبب تعدد الجهات الرقابية في مصر، حيث يمنع بعضها ما يجيزه الأخر والعكس.

نرشح لك: الإعلانات بين “حماية المستهلك” و”الأعلى للإعلام”.. المقص مع من؟

الأزمة الكبرى كانت في التعارض بين هيئة الرقابة على المصنفات الفنية التابعة لوزارة الثقافة، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فلجوء القائمين على الأعمال الفنية والإعلانية لهيئة الرقابة وحصولهم على موافقتها، لم يكن كافيًا لضمان عرض المحتوى المُقدم، إذ أن هناك جهة رقابية أخرى (المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام) تصدر قرارات تمنع بعض ما أجازته هيئة الرقابة، إذن هناك سُلطة أعلى من الأخري فيهما، والواضح هنا أنها “الأعلى للإعلام”، رغم أن الدستور حدد لكل منهما اختصاصات تفصله عن الأخر.

أولًا: المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام:

1-   اختصاصاته

اختصاصات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والتي حددها قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام رقم 92 لسنة 2016، لم يكن من بينها إبداء الرأي حول محتوى أي عمل فني أو الرقابة على الأعمال الإبداعية، حيث اقتصر القانون على أن يكون للمجلس اختصاصات إدارية تنظيمية مُتعلقة بمنح التصاريح للإعلاميين وتلقي إخطارات تأسيس الصحف، وأخرى فنية تتعلق بالمحتوى مثل تلقي وفحص الشكاوى عما يُنشر في الصحف أو يبث بوسائل الإعلام، ويكون منطويًا على المساس بحياة الأفراد أو سمعتهم.

2-   قرارته الرقابية

خلال 10 أشهر تقريبًا، أصدر المجلس قرارات رقابية أثارت جدلًا كبيرًا في الوسط الفني والإعلامي في مصر، أبرزها انتقادات حادة ومستمرة لبعض الأعمال الدرامية، لا سيما في شهر رمضان الماضي، رغم أن أعضائه غير مخولين بتقييم الأعمال الفنية، فهم ليسوا من العاملين بمهنة الفن بالأساس، لكن المجلس أصدر تقريرًا انتقد خلاله محتوى بعض المواد الرمضانية، بداعي ما تحمله من إيحاءات جنسية، والحض على سلوكيات مرفوضة، والوقوع في أخطاء تاريخية وفنية، ووجود إسقاطات سياسية وإساءات للمهن.

ورغم كل تلك التفاصيل، إلا أن “مكرم” أكد أنه يراقب ولا يُقيِّم الأعمال الفنية كفن، ولكن يقيم آثارها على الشارع والمجتمع المصري لبيان مدى الالتزام بالمهنية، دون دخول في النقد الفني للأعمال، وهذا ما يرفضه كثير من المبدعين، إذ أن الحكم على الفن من منظور أخلاقي بحت يتعارض مع النظرة الشمولية التي يتبناها المبدعون دومًا.

لكن جاء ذلك بالتزامن مع إعلان المجلس، في يونيه الماضي، قرار بفرض غرامة قدرها 200 ألف جنيه على كل قناة فضائية و100 ألف جنيه للإذاعات، إذا تمّ بث لفظ مُسيء من خلال هذه الوسائل، سواء جاء اللفظ خلال برنامج أو ضمن محتوى الأعمال الدرامية أو الإعلانية، ويتوسع القرار ليشمل سحب ترخيص هذه الوسيلة الإعلامية إذا تكرر البث ولم تلتزم بالعقوبة خلال 6 أشهر، وسيكون على هذه الوسيلة إعادة إجراءات الترخيص من جديد.

أيضًا في نهاية ديسمبر الماضي، أصدر المجلس قرارًا بوقف عرض إعلان أبلة فاهيتا الخاص بشبكة “فوادفون مصر” لخدمات المحمول؛ لتضمنه مشاهد وألفاظ تنافي الذوق العام، بحسب القرار، مما دفع الشركة لإيقاف كل حملاتها الإعلانية في كل وسائل الإعلام والقنوات، وذلك لحين استيضاح الأمور مع الجهات المعنية، اعتراضًا على هذا الأمر.

نرشح لك: بعد فودافون.. هل بدأت هجرة المعلنين من الفضائيات؟

تعددت رقابات المجلس بعد ذلك، وأصدر قرارات وقف أخرى تتراوح ما بين يومين وشهر كامل، لما يقرب من 10 برامج تليفزيونية، أبرزها “ملعب شريف“، “S.N.L بالعربي“، “الناس الحلوة“، “صحي النوم”، انفراد“، “صبايا الخير“، “الكورة كل يوم“، “المشاغبة“، بالإضافة لتوجيه إنذارات لعدد من القنوات، أبرزهم قناة “LTC“، وقناة “النهار” بسبب برنامج “مع دودي”، وكذلك قناة “ON E” بسبب برنامج “ثلاثة في واحد” الذي تقدمه شيماء سيف.

وفي نهاية يناير الماضي، أصدر المجلس قرار رقم 2 لسنة 2018، إلى جميع القنوات الفضائية والتليفزيون المصري، يتضمن إلغاء ووقف أي حلقة أو فقرة داخل أي برنامج تليفزيوني يحدث فيها تجاوز من ضيوف البرنامج، سواء سبًا أو قذفًا لآخرين، بوقفها أو إلغائها حال عدم استجابة الضيف لإنذار مقدم البرنامج.

وشملت توجهاته الرقابية كذلك، مواقع التواصل الاجتماعي بشأن التجاوزات التي قد ترد في بعض الصفحات الشخصية للصحفيين والإعلاميين، إذ أكد رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، أن المجلس سيحاسب كل من يتجاوز الحدود، على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، موضحًا أنه من حق أي شخص تعرَّض للسب أو القذف أن يتقدم بشكوى لمحاسبته وإن كان صحفيًا أو إعلاميًا.

3-   تداخل الرقابة

الجدل والانتقادات التي أثيرت بسبب قرارات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، لم تقف عند حد الاعتراض على الرقابة على ما تم عرضه، بل أيضًا بسبب اللبس والتعارض _إن جاز التعبير_ بين دوره ودور هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، بل طالب جلال عوارة وكيل لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب، “الأعلى للإعلام”، قبل أيام، بمراقبة الأعمال الفنية التليفزيونية (برامج – دراما – سينما) قبل عرضها على الشاشات، وكأن هيئة الرقابة لا دور لها فيما يُعرض.

الأمر تخطى المطالبة بمراقبة المجلس للأعمال قبل عرضها، بل ما يسبق ذلك بكثير، وتحديدًا عند اختيار الموضوعات التي تتناولها الأعمال الدرامية، إذ أعلن المخرج محمد فاضل، رئيس لجنة الدراما بالمجلس الأعلى للإعلام، عن إنشاء قائمة بالمواضيع التي لها أولوية من وجهة نظره اللجنة، والتي ينبغي على صناع الدراما تناولها، وهو الأمر الذي اعتبره القائمون على الدراما وصاية غير مقبولة من المجلس أو من أي جهة كانت.

ثانيًا: هيئة الرقابة على المصنفات الفنية

1-   اختصاصاتها

تخضع المصنفات الفنية السمعية أو البصرية لقانون الرقابة على المصنفات الفنية طبقا لقرار رئيس مجلس الوزراء المصري رقم 162 / 1993، وذلك للمصنفات المبثة أو المسجلة على أشرطة أو أسطوانات أو أي تقنية أخرى، وكذلك المصنفات التي يتم عرضها مباشرُا وذلك بعد أن يتم منحها ترخيص من الإدراة العامة للرقابة على المصنفات التابعة لوزارة الثقافة المصرية، وبموجب ذلك الترخيص يتم تصويرها، تسجيلها، أداؤها، عرضها، إذاعتها، توزيعها، تأجيرها أو تداول بيعها.

ويصدر ذلك الترخيص بعد تقديم طلب ترخيص للمصنف الفني على “نموذج” مُعّد لذلك، حيث يلتزم القائمون بالرقابة على المصنفات الفنية عند النظر في طلب الترخيص بأي مصنف، مراعاة ألا يتضمن المصنف أو ينطوي على ما يمس قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية أو الآداب العامة أو النظام العام.

2-   التغاضي عن قرارات “الأعلى للإعلام”

تجاهل هيئة الرقابة على المصنفات الفنية لقرارات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام التي تتعلق بالأعمال الدرامية، يُعد محل تساؤل مهم، لا سيما أن هناك استنكارًا كبيرًا من المبدعين لهذا الصمت والتجاهل، لأنه إذا استمر الوضع على ما هو قائم عليه الآن، سيصبح المجلس المسؤول الأول عن الدراما والإعلانات، ولا يتبقى لهيئة الرقابة سوى السينما، هذا إن لم يُلزمها المجلس بقرارات مستقبلية أخرى تتعلق بها.

المجلس يؤكد دومًا أنه لا يتدخل في عمل هيئة الرقابة، بل يمنع عدم خضوع الأعمال الفنية إليها، موضحًا أنه سيدعم عمل هيئة الرقابة وتفعيل القانون في رقابتها على ما سيعرض في رمضان المقبل، لأن تدخله بالرقابة على الأعمال الدرامية في الموسم الماضي، كان بسبب عرض بعض المواد دون المرور على هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، نتيجة تسليمها حلقة بحلقة.

لذلك أعد المجلس مذكرة حدد فيها عدة إجراءات لا بد أن تخضع لها مسلسلات رمضان، ومن بينها توفير الوقت الكافي قبل موعد التصوير أو العرض لإمكان خضوعها للعرض الرقابي، وتم تحديد موعد أقصاه أسبوعين علي الأقل، وهذا لأن صناع الدراما كانوا يسلمون أعمالهم حلقة بحلقة، حتى يتهربوا من عرضها علي الرقابة.

  • الخلاصة

المجتمع المصري من أكثر المجتمعات التي تتأثر بالفن، وسواء انعدام أو تقليص الرقابة أو تشديدها والمبالغة فيها، يكون له أثر سلبي على الفن وعلى المجتمع على حد سواء، لذلك تضارب الجهات الرقابية بغرض تشديدها لا يصب في صالح العملية الإبداعية، وهو ما يحدث الآن بسبب تشتت المبدعين نتيجةً لتصاعد سلطات المجلس الأعلى للإعلام، وشبه انحسار دوره في العمل الرقابي فقط، وسط تجاهل الهيئة المنوط بها القيام بذلك لما يحدث، وكأن المجلس أصبح سلطة فوق سلطة هيئة الرقابة على المصنفات الفنية.

في الختام نُذكر برأي الناقد السينمائي الراحل سمير فريد في كتابه “تاريخ الرقابة على السينما في مصر”، الذي  أصدره قبل نحو 20 عامًا،  وحذَّر خلاله من رقابة محتكري الأخلاق الذين يتسترون وراء مسميات “الحياء العام” أو “الذوق العام”، مؤكدًا على أن الرقابة سوف تظل قائمة طالما هناك مبدعون في الدولة، وسوف يظل الصراع بين المبدعين وبين الرقابة ما بقى الإبداع وما بقيت الدولة، فمسألة المنع مؤقتة في غالب الأحيان، لأن ما يُمنع الآن، قد يُسمح به فيما بعد، طالما ظل “النيجاتيف” الأصلي الكامل موجودًا.. وكأن المنع الرقابي مسألة وقت لا أكثر.

مهرجان القاهرة السينمائي