مصطفى محمود و"ناشيونال جيوغرافيك".. من الأقدم؟!

إيمان مندور
 
قبل نحو 96 عامًا، وفي مثل هذا اليوم تحديدًا من العام 1921، ولد الأديب والطبيب والفيلسوف والمفكر مصطفى محمود، بشبين الكوم، بمحافظة المنوفية، حيث كان يقطن بجوار مسجد المحطة الذي يعد أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر، مما ترك أثره الواضح على أفكاره وتوجهاته.
 
خاض “محمود” على مدار حياته رحلة من العلم والأطروحات الفكرية والمناقشات الفلسفية، أثمرت جدلًا حول إيمانه لم يُحسم حتى بعد وفاته، حيث قدَّم أكثر من أربعمائة حلقة من برنامجه الأشهر “العلم والإيمان” على مدار 18 عامًا، وكتب تجاوزت الثمانين كتابًا، ومئات المقالات في الصحف المصرية والعربية، ومعارك ثقافية ونقاشات فكرية ما زالت تُذكر حتى الآن.


 

لكنه قبل وفاته وفي ذروة انتشار كتبه وحلقاته التليفزيونية سأل نفسه: “كل محصولي من الدنيا هيبقا شوية كلام؟”. هذا التساؤل الذي أرَّقه واجه به صديقه المقرب الموسيقار محمد عبد الوهاب، علَّه يساعده في تخطي حالة الضيق التي تتملكه، قائلاً: “اسمع بقى ده كلام فاضي، مش معقول أقابل ربنا بشوية كلام”، فاختلف معه صديقه ليرد عليه بسخرية: “طب ما أنا هقابل ربنا بشوية غُنا.. فيها إيه! ده اسمه فن”. سخر الصديقان من أحاديث بعضهما البعض، فتابع محمود: “يعني هتقابله ببلاش تبوسني في عنيا؟.. الصراحة يعني بيني وبينك يا عُبَد موقفك مش مضمون”.

 
بعد انتهاء الحديث الساخر بينهما، شدد “عبد الوهاب” على أهمية الفن وخطورة الكلمة في تغيير أوضاع المجتمع، لكن “محمود” أصر على موقفه بأن هناك فرقًا بين الأقوال والأفعال، وأن خدمة الإنسان هي ما يبقى، مثل إطعام مسكين أو كفالة يتيم أو عمل مشروع خدمي ينفع الناس ويظل أثره بعد الموت، قائلاً: “إنك تشوف واحد بيموت وتسعفه.. هتسعفه بإيه؟.. بغنوة؟!”.
 
وبالفعل انغمس مصطفى محمود في مجال الأعمال الخيرية وتوسع في مشروعاتها، إلى أن شيَّد المسجد الذي يحمل اسمه إلى يومنا هذا في منطقة المهندسين، إضافةّ لتأسيس مراكز طبية للخدمة العامة ما زالت قائمة حتى الآن أيضًا. ويرجع سبب الاستمرار لحرص الكاتب الراحل منذ البداية على أن يسير العمل وفق نظام مؤسسي في الإدارة لا يتأثر بغيابه، لذلك لم تنهار مؤسساته الخيرية أثناء فترات مرضه الشديد في أواخر أيامه أو بعد رحيله.


“لن تكون مُتدينًا إلا بالعلم؛ فالله لا يُعبد بالجهل”

في تمام الساعة التاسعة مساء يوم الاثنين من كل أسبوع، كان الجمهور يلتف حول شاشة التليفزيون المصري لمتابعة حلقات برنامج “العلم والإيمان” للدكتور مصطفى محمود، والذي كان طفرةً في الساحة الإعلامية وقتها من حيث نقل الوقائع العلمية وشرحها بطريقة مبسطة تجمع بين العامل والعالم في الفهم، مع ربطها بالتفسير الديني.
 
يمكننا القول أن مصطفى محمود كان “ناشيونال جيوغرافيك” مصر الأول –إن جاز التعبير-، فقبل وفاته بثلاثة أشهر وتحديدًا في يوليو 2009، تم إطلاق نسخة عربية من قناة “ناشيونال جيوغرافيك” التي تهتم بالبرامج الوثائقية العلمية والجغرافيا والعلوم الطبيعية، وذلك بعد مرور 10 سنوات من عرض آخر حلقة من “العلم والإيمان” الذي استمر نحو 18 عامًا على شاشة التليفزيون المصري والعديد من القنوات العربية.
 
المفكر الراحل كان يستعين بأفلام علمية أجنبية تمنحه إياها سفارات الدول الأجنبية ويحذف منها التعليق الأصلي، ليقدم مادته العلمية التي ترجمها إلى العربية، ويربط بعضها بالتفسير الديني وما اتصل بها في القرآن والسنة عمومًا. لكن في عام 1976 نفدت الأفلام التي حصل عليها “محمود” من السفارات، فسافر لإحضار شرائط جديدة بقيمة 15 ألف دولار؛ وبعد عودته كانت تماضر توفيق تولت رئاسة التليفزيون، ورفضت إعطاءه المبلغ، فتدخل رياض العريان صاحب إحدى شركات القطاع الخاص وسدد المبلغ، وتكفَّل بالبرنامج مقابل 300 جنيه للحلقة، وبدأوا تسجيل الحلقات في تونس واليونان، ثم لندن في عام 1980.
 


“كل ثورة كانت تحطم الثورة التي سبقتها في تواتر مستمر طوال التاريخ، لأن كل نظام كان يفشل في استيعاب قوة الروح الحر المبدع الخلاق”
 
عشق مصطفى محمود الكتابة وفضَّلها على مهنته كطبيب، حين استغنى عن عضوية نقابة الأطباء في الستينيات ليظل محتفظًا بعضوية نقابة الصحفيين، وذلك بعد قرار‏ ‏الرئيس الراحل جمال‏ ‏عبد‏‏ الناصر ‏بمنع‏ ‏الجمع‏ ‏بين‏ ‏وظيفتين‏، إلا أن امتهانه الكتابة سبب له العديد من الأزمات مع “عبد الناصر” شخصيًا، حيث طلب الأخير تقديم مصطفى محمود للمحاكمة بسبب كتابه “الله والإنسان” بناء على طلب الأزهر باعتبارها “قضية كفر”، لكن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب.
وبعيدًا عن الآراء الفكرية والمعتقدات، كان محمود يختلف أيضًا مع عبد الناصر في طريقة حكمه للبلاد، وسياساته الاشتراكية، فوصف عهده بأنه “مناخ لا يزدهر فيه إلا كل منافق، وأصبح الشعار هو الطاعة والولاء قبل العلم والكفاءة، حيث تدهورت القيم، وهبط الانتاج وارتفع صوت الغوغاء على كل شيء”، مشددًا على أن عبد الناصر عاش عشرين عامًا في ضجة إعلامية فارغة ومشاريع دعائية واشتراكية خائبة، ثم أفاق على هزيمة تقسم الظهر وعلى انهيار اقتصادي، وعلى مائة ألف قتيل تحت رمال سيناء وعتاد عسكري تحول إلى خردة.
 
أما علاقته بالرئيس الأسبق محمد أنور السادات كانت على النقيض من ذلك تمامًا، فالكتاب الذي طلب عبد الناصر محاكمة مصطفى محمود بسببه، أعجب به السادات وقرر طبعه مرة أخرى حين تولى الحكم، وهو ما أثار الجدل ضد “محمود” مجددًا وتم اتهامه بالإلحاد. كما أثارت مقالات أخرى له جدلًا كبيرًا وطالته اتهامات بإنكار الشفاعة والتشكيك في القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
 

التقارب الشخصي بين مصطفى محمود والسادات استمر حتى اغتيال الأخير، وهو ما نتج عنه دخول “محمود” في حالة حزن شديدة استمرت فترة طويلة، ونعاه قائلاً: “كان السادات يغمض عينيه فيرى المستقبل.. ونحن نفتح عيوننا ولكن نرى الماضي.. كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلًا رد مظالم كثيرة وأتى بالنصر؟!”.

“افتحوا النوافذ، وجددوا هواء الفكر الذي ركد”

السادات كان يهتم بآراء مصطفى محمود كثيرًا، ويحرص على كسبه لصالح النظام، حتى أنه عرض عليه منصبًا في الوزارة، لكن “محمود” رفض لإدراكه ثقل هذه المسؤولية، فدعاه السادات ذات مرة ليشاركه صلاة الجمعة في قريته ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية، وبعد أن فرغ الجميع من الصلاة توجهوا لمائدة الغداء، وسأله السادات على حين غرة منه قائلاً: “إيه رأيك في الجماعات الإسلامية يا دكتور؟؟ وايه رأيك في الشغل اللي عاملينه في الجامعات والمساجد؟”.

كتب محمود في مذكراته عن هذه الواقعة: “الإجابة كانت على لساني، أنا دائما لا تقف أمامي أسئلة من هذا النوع، يكفي أني قضيت أربعين عامًا من عمري أفكر في القضية التي أسأل عنها اليوم.. ولكن هل تكفى أربعون عاما للإجابة عن سؤال الحاكم الذى يصدر القرارات؟.. فصمت قليلا، واحترم هو صمتي وأجبت بصوت منخفض ارتفع تدريجيا: الموضوع أكبر من السؤال اللي حضرتك بتسأله.. بمعنى.. الجماعات دي بتاعت مين.. يعنى هي صناعة إيه.. وحضرتك خير اللي عارفين إن احنا مابنصنعشي حاجة، السؤال ده المفروض حضرتك تقسمه لعدة أسئلة، أولها مين صنعها؟؟

مين صنع الجماعات دي.. حضرتك بتشوف فصائل الجماعات بتقف وتهزم وتحرج أعتى قوة في العالم – يقصد أفغانستان القديمة أمام الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه – واللي بيساعد في قومة الجماعات الإسلامية دي عشان هو بيحب الإسلام!! ولا عشان مصالحه!!، وإذا قامت الجماعات الإسلامية بإنهاء مصالحه وتنفيذ أجندته من غير ما يدري هيكون حضر عفريت كبير.

والسؤال التاني الفصايل اللي عندنا في مصر من أي الأنواع هل هو مصنوع أم منشق.. يعنى في الأول والآخر هل هو بينه وبين الغرب أجندة أم لا.. وبعدين الجماعات اللي عندنا في مصر دي مختلفة قوى يا ريس.. يعنى يجبرونا نسأل سؤال تالت مهم قوي.. هي الجماعات دي مين؟؟.. إخوان ولا جهاد ولا سلف ولا قطبيين ولا.. ولا.. يا ريس أنا أتمنى أي حاجه تخص الإسلام نجمها يعلى.. يعني بصورة أوضح هو ده اللي المفروض أضيع عمري عشانه.. بس هي المشكلة يا ريس إن احنا نتفق معاهم على معنى للإسلام الأول.

وبعدين الإسلام مش هو اللحية وطولها إيه والسواك قبل الصلاة سُنة ولا طول الجلباب، والبدل دي كفر ولا لازم الجلباب.. مش هو ده الإسلام اللي نساعد على نشره يا ريس.. الإسلام اللي نشيله فوق أكتافنا هو الإسلام الداخلي.. هو كرامة المسلمين.. ما ينفعش يا ريس العالم كله قاعد يحتفى بالطيار اللي عطل رحلته ونزل من السماء عشان ينقذ قطة كانت مزنوقة في المحرك، وإحنا المسلمين الملايين بيموتوا من الجوع والفقر كل يوم.. ويقوموا يطلعوا خنجر في ضهرنا اسمه الجماعات الإسلامية”.

أوجز مصطفى محمود في دقائق معدودة ما عكف عليه خلال 40 عامًا من القراءة والبحث في تاريخ الجماعات الإسلامية، والسادات ينصت بشدة، لم يقاطعه أو يشرد أو يضحك من انفعاله.. فقط استمع، وهو ما امتن له “محمود” بشدة، وأكد أنه منذ هذا اليوم وهناك قانون شهري أصدراه فيما بينهما أن يتقابلا صباح أحد الجمع من كل شهر.. السيارة السوداء التي تخص الرجل الأول في مصر تعبر لتأخذ محمود في الموعد ليصلي معه، ويمضيا يومهما معًا، ويسأله السادات فيما أحب أن يستمع لمشورته فيه.

 

 
“أريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة اكتشاف.. لحظة معرفة.. أريد لحظة تجعل لحياتي معنى.. إن حياتي من أجل أكل العيش لا معنى لها لأنها مجرد استمرار”
 

رحلة مصطفى محمود الفكرية التي بدأها بالشك، وانتهى فيها إلى اليقين والإيمان المتحقق عن ماهية الأشياء وجوهرها، عانى خلالها من الكثير من الانتقادات والاتهامات المتكررة بالإلحاد والزندقة، منذ أن بدأ سلسلة كتبه التأملية الفكرية بـ”الله والإنسان” في 1950، ثم “القرآن.. محاولة لفهم عصري” عام 1969، إلى أن أصدر كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان”، والذي كتب فيه: “لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة”، ليستطرد بعدها في سرد قصة انتقاله من الشك في وجود الله إلى الإيمان واليقين التام بوجوده.

 
كما أصدر كذلك كتاب “حوار مع صديقي المُلحد” ليوضح رؤيته وكيف تحول من باحث في قضايا الموت والذات الإلهية والخلق، إلى موقن بالله الخالق الحيّ المُطلق، تلاه كتب عديدة ترسخ ليقينه بالله مثل “القرآن كائن حي”، “الماركسية والإسلام”، “الصوفية السر الأعظم”، “أسرار القرآن”، “القرآن محاولة لفهم عصري”، “الله، محمد، الكعبة”.
 
لكن رحلة مصطفى محمود الفكرية التي دوّن مراحلها واحدةً تلو الأخرى في كتبه ومقالاته، لم يشفع له وصوله لليقين في نهايتها، وتمسك منتقدوه بشكوكه التي فنَّدها في البداية، وظلت الاتهامات تطارده عنها حتى بعد وفاته.
 


“وكانت تراوده الرغبة في أن يصحو يوماً من هذا الموت، وأن يفعل شيئاً.. أي شيء يدل على أنه حي”
 
في تمام الساعة الثامنة، صبيحة يوم السبت الموافق 31 أكتوبر 2009، وبدون أي مقدمات سوى تدهور الحالة الصحية التي أدخل على إثرها العناية المركزة في مشفاه الذي يحمل اسمه في المهندسين، توفي الدكتور مصطفى محمود عن عمر ناهز 88 عامًا.
 

“كان نائماً في سكينة تامة لكنه لم يستيقظ مرة أخرى، رحل بهدوء كما عرفناه دومًا، لقد كنت معه طوال الليل بجانبه في سريره الأخير، ولكنه لم يتحدث مع أحد”.. هكذا قالت “أمل” عن لحظات والدها الأخيرة التي ترك بعدها الحياة ليتوجه إلى من كان يبحث عنه طوال عمره، وليستريح عقله من عناء المكابدة، ويظل علمه وأعماله الخيرية باقية في الدنيا كما أراد.