صلاح جاهين.. "أراجوز مصر" الذي دفعه الخوف لتأليف "الليلة الكبيرة"

فاتن الوكيل

تناولت العديد من اللقاءات والحوارات موضوع تعدد مواهب الشاعر والرسام والمؤلف صلاح جاهين البعض قال إن المثل الدارج “سبع صنايع والبخت ضايع” ينطبق نصفه الأول عليه، بينما ينفون عنه النصف الآخر، مؤكدين أن بخت “جاهين” فنيا لم يكن ضائعا في يوم من الأيام، بل على العكس تمكن من استغلال موهبته في صورها المتعددة، ليصل برسالته إلى الجمهور.

نرشح لك – أعمال صلاح جاهين الإذاعية.. أبرزها “فوازير سعاد حسني”

ونحن اليوم 25 ديسمبر، نُحيي ذكرى ميلاد صلاح جاهين، سنتحدث عن جانب عشقه وأصبح أحد رواده، وهو فن العرائس، وكيف دخل إلى هذا العالم الساحر، الذي ربطه بالشعب كبار وصغار على حد سواء، وتجلى في عمله “الليلة الكبيرة”.

البداية من النشاة، التي انعكست بعد ذلك على أعماله ومنها العرائس، فمحمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي جاهين، ولد في شبرا لأب يعمل في النيابة والقضاء، مما جعله على مدار 12 عاما من طفولته، يتنقل بين بلاد الله داخل القطر المصري، فعاش فترة كبيرة في الأرياف، تأثر بأهلها وثقافتهم وعاداتهم الشعبية، عرف جاهين أن الريف المصري ليس كله لونا واحدا، في كل بلد اكتسب مخزونا فكريا إضافيا، أهلّه في سن صغيرة إلى اكتشاف الجانب الفني في شخصيته.

شاهين قال في حوار تسجيلي إن الشعر أبقى من جميع الألقاب الأخرى التي يحتار فيها المذيعون عند تقديمه، أضاف أيضا أن سبب اختياره لكتابة الشعر العامي، هو حضوره قضية اتهم فيها فلاحين قرية “بهوت” بعد أن قاموا بالتمرد ضد الإقطاعي الذين عملوا لديه وعوملوا بقسوة. عندها شعر جاهين أنه يريد مخاطبة هؤلاء دون غيرهم، ومن هنا قرر الكتابة بالعامية، بالإضافة إلى تأثير فؤاد حداد الذي “نوّر إليه الطريق” على حد قوله. وبقياس ذلك على فن العرائس نجد أن أشعار صلاح جاهين، خلدت شعره في صورة مسرحية قريبة للغاية إلى المواطن المصري على اختلاف ثقافته، حتى أنك عندما ترى صورة العرائس تتأكد من أن جاهين رسم بالكلمات شكلها قبل تطبيقها على أرض الواقع بفعل فنان محترف للغاية وهو الفنان التشكيلي ناجي شاكر.

نرشح  لك – دعاء عبد الوهاب تكتب: أنا وجاهين وزهر الشتا

أضاف جاهين تصريحا يمكن من خلاله فهم عقليته وتكوينه، وذلك عندما قال: “بحس أحيانا إني مثقف ثقافة غربية ومحبش غير السيمفونيات الغريبة، وأحيان تانية كأني مصري قاهري من شوارع السيدة”، لم يُغلّب جاهين شخصية بداخله على الأخرى، حتى لا تتعالى “غربيته” على الشوارع والحواري، وحتى لا تتهم “مصريته” الجانب الغربي منه بالتعالي والتكبر، وبتطبيق ذلك على “الليلة الكبيرة” نجد أن فن العرائس عندما بدأ في مصر -بخلاف الأراجوز- شارك فيه جاهين مع خبراء أجانب، وكانوا يقدمون مسرحيات ليست مصرية، لكنه استطاع أن يمزج بين هذا الفن الذي كانت تُرسل الدولة شبابها في بعثات من أجل تعلمه، إلى عمل “مصري صميم”، ليحقق جاهين توازنه الشخصي مرة أخرى من خلال “الليلة الكبيرة”.

صلاح جاهين بجواره الفنان ناجي شاكر

من هنا نفهم أن جاهين مولع بالوصول إلى الناس، والتواصل مع كل شيء حوله، على اختلاف ألوانه وأذواقه، وليس من العجب أن يكون أول مشروع فني يعمل عليه جاهين فور قدومه إلى القاهرة هو “سوق بلدنا”، هذه الصورة الغنائية التي تصف بدقة تفاصيل السوق المصري، تعود بنا مرة أخرى إلى نشأة جاهين في الأرياف، والتي أخذ منها هذه الصور الكاملة عن عادات الناس ورقصاتهم وأساطيرهم، وقريبة بشكل أو بآخر إلى صورة المولد التي قدمها في “الليلة الكبيرة” لكن بتفاصيل مختلفة.

https://www.youtube.com/watch?v=cYhrXmGCikE

هذه القصص والأساطير التي خزنها جاهين منذ الصغر، ساعدت كثيرا عند كتابة أوبريت “الليلة الكبيرة”، ولكنه لم يكتبها لمسرح العرائس كما نراها ونحفظها عن ظهر قلب الآن، نُرددها ونحن نتخيل عرائسها تتحرك بخفة ومرح على المسرح، لكنها كانت في الأصل عملا إذاعيا، فحسب ما قال المخرج المسرحي صلاح السقا، الذي وصف جاهين بـ”أراجوز مصر الأول”، إنه عمل مع جاهين وناجي شاكر في مسرح العرائس ولم يكونوا قد عرفوا من هذا الفن سوى الأراجوز.

نرشح لك – سبب غضب صلاح جاهين من “زوزو”

أضاف: ” “وجدنا في جو العرائس متنفس حلو جدا وتعلقنا به.. قدمنا أول عمل وبعدين قلنا ليه منعملش أعمال مصرية؟ ومن هنا جاءت فكرة تحويل البرنامج الإذاعي “الليلة الكبير” إلى أوبريت للعرائس”، وبالفعل كتبوا السيناريو، وأعاد جاهين كتابة الأشعار من جديد، ولحنها سيد مكاوي، وقام ناجي شاكر بتصميم العرائس وشعروا جميعا بسعادة عندما قاموا لأول مرة بتحريك العرائس على المسرح، وهو العمل الذي أصبح من أنجح الأعمال التي قدمت على مسرح القاهرة للعرائس”.

وحكاية “الليلة الكبيرة” كما رواها جاهين هي أنه ظل يشعر بالغربة عن القاهرة بعد أن عاد إليها من الريف.. “كنت خايف منها.. واستمر الخوف منها حوالي عشر سنين”، هنا قرر أن يكتب الليلة الكبيرة، أن يُخرج الصور التي يخاف منها في زحمة القاهرة وينقلها إلى عمل فني، وأشار إلى أنه فعل مثل “إنسان الكهف” الذي رسم الحيوانات التي خاف منها على الجدران كمحاولة للتغلب على خوفه، وفور أن كتبها جاهين شعر أنه أخيرا امتلك قاهرته.

النجاح الكبير الذي حققته “الليلة الكبيرة” طغى على أعمال أخرى لمسرح العرائس في مصر، بالنسبة للجمهور وليس لدى أصحابها، فمسرحية “حمار شهاب الدين” التي وضع جاهين نصها وقام الفنان التشكيلي ناجي شاكر بتصميم عرائسها، ولحن سيد مكاوي نصها، ظلت قريبة إلى قلب أصحابها، وهو ما أكده مكاوي في حوار تلفزيوني سابق، قام خلاله بغناء مقطع قصير من حوار “ريحانة” بطلة العمل، والدليل الآخر هو أن الفنان ناجي شاكر وقت كتابة المسرحية، كان في بعثة بألمانيا لدراسة فن مسرح العرائس، عام 1960، لكنه قرر قطع الدراسة والعودة إلى مصر للعمل على النص المسرحي الذي وضعه جاهين.

45 عروسة خرجت للنور بشخصياتها المختلفة  بفعل الشغف الفني والخوف من القاهرة وحب الشعر والعرائس والمسرح، وتحولت “الليلة الكبير” من عشر دقائق في الراديو كصورة غنائية، إلى أبرز عمل فني مسرحي شعبي، يحفظه الكبير والصغير في الشارع. يقول الفنان ناجي شاكر إن العمل أخذ ما يقرب من 6 أشهر لكتابة السيناريو وتحويل الشخصيات الكثيرة في الأوبريت إلى عرائس منحوتة بدقة لتعبر عن كل شخصية.

أول عرض لـ”الليلة الكبيرة” كان في مهرجان بوخارست، وحصل على جائزة المهرجان، وعندما عادوا إلى مصر وعرضت المسرحية “كسرت الدنيا”. يرى “شاكر” أن عروسة “رجل النشان” الأظرف من وجهة نظره، حيث تقترب من شخصية صلاح جاهين، فهو “مليان وخفيف وبيرقص” مثله، أما العروسة الأصعب فكانت راقصة “طار في الهوا شاشي”، التي حركها ثلاثة أشخاص لتظهر بهذه الصورة.