من المبادئ التي أحاول زرعها في ابني منذ الصغر هي أنه لا يصح إلا الصحيح وبالتالي فإنني أنصحه دائما مثل الفنان غسان مطر “اعمل الصح”…ولكي لا يتساءل عن الصح والخطأ فإنني أحاول على قدر الامكان أن أكون مثله الأعلى في جميع التصرفات. ولكن بمرور الأيام وانفتاحه على العالم الموجود خارج محيط أسرته في المدرسة والشارع والنادي وغيرهم أجد صعوبة متزايدة في الحفاظ على تلك المبادئ وتبرير تلك التصرفات “الصح”.
وتأتي المشكلة اليومية التي تتحدي جميع المبادئ والقانون والأخلاق وهي ببساطة في المرور! ولا أتحدث هنا عن الطريقة التي يقود بها أغلب المصريون أو طريقتهم في التعامل مع بعضهم البعض أو التزامهم المتوقع بالاشارات والقواعد المختلفة المتعارف عليها لأي شخص من المفترض أنه اجتاز اختبار القيادة، فالحمد لله أصبح لدي القدرة على التحكم في أعصابي وعدم التلفظ بأية ألفاظ – في حدود سيارتي طبعا- أمام أولادي، فاكتفي بعبارات مثل “حرام عليك” أو “ينفع كده؟؟” وهكذا من العبارات البريئة ظاهريا.
ولكن المشكلة الحقيقية هي في شارع مشؤوم يؤدي إلي شارع منزلي في المعادي الحبيبة المتدهورة – والتي ليست مجال المناقشة الآن-، وبالتالي فإنني أمر به بصفة يومية مرة واحدة على الأقل. والشارع مسموح فيه بالسير في اتجاه واحد فقط، والاتجاه المعاكس له شارع آخر موازي تقريبا….ولكن ازاى! فيجب علي المصريين كعادتهم أن يوفروا العشرين مترا المؤدية للشارع الآخر ليقرروا دخول الشارع باتجاه مخالف بالرغم من وجود لافتتين على مدخل الشارع بعلامة قد تكون لا تعني شيئا للمصريين وهي “ممنوع الدخول”!
ومن منطلق أن أكون مواطنة ايجابية من ناحية وأن أمر بالشارع دون تجارب معملية لحشر سيارتين في اتجاهين معاكسين للمرور في نفس الوقت فإنني أعترض دائما على أي قائد سيارة يدخل في الشارع بالاتجاه الخاطئ. وبدأت بالمعلومة “جايز ميعرفوش” لتكون جملتي الشهيرة المحفوظة الآن من ابني “الشارع ده اتجاه واحد على فكرة” لتتراوح الاجابات ما بين المعتذر – وهي قلة قليلة مندسة- وما بين المتظاهر بالجهل وما بين الذي يعاند ويرفض الرجوع للخلف من الأصل على أساس أننا – أى القادمين من الاتجاه الصحيح – “مكبرين الموضوع” ومجانين والتي وصلت إلي سيدة “فاضلة” هددتني هي وابنتها أنها تعمل بالنيابة وأن لا يستطيع أحد أن “يعملها حاجة”…كل ذلك وابني معي في السيارة…يشاهد في صمت ويراقب كيف يفعل المصريون ما يحلو لهم و يكسروا القواعد ويخرقوا أبسط القوانين دون عقاب…وكان رده البرئ دائما ” كلمي البوليس” ليأتي ليعاقبهم اعتقادا منه بأن الخطأ في بلدنا الحبيب تتم المحاسبة عليه…ليأتي اليوم الذي نجد فيه سيارة شرطة “بوكس” تسير في الاتجاه المعاكس المقابل لنا ويقودها أمين شرطة ويتحجج بقوله بمنتهي القرف “اصل عندي مأمورية”…ليظل علي صامتا لبضع دقائق ثم سألني “طب دلوقتي البوليس ماشي غلط نعمل ايه؟؟”…ابتسمت في يأس وأجبته “هنفضل نعمل الصح برضه يا علي”.
ولكن ما يكسر الصورة الايجابية التي أحاول رسمها في ذهن ابني الصغير هي “البجاحة” والصفاقة لدى الكثير من السائقين التي وصلت بالبعض منهم للصراخ والسباب لرفضي الرجوع للخلف أو غيره والتي تكللت برد فج قاله أحد المواطنين الشرفاء عندما قلت له أن هذا الشارع هو اتجاه واحد فقط وهو “وانتي مال أ*ك يا ……….!! امشي يلا امشي!!” لأصاب لحظات من الذهول وابني معي في المقعد الخلفي للسيارة…ظللنا لعدة دقائق حتي المنزل في صمت قطعه علي بعبارة ” هو الراجل هزأك مش كده”…جاوبته في حالة من اللامبالاة “لا يا حبيبي هو بس مامته معلمتوش كويس ايه الصح من الغلط”….هل حقا يعتقد المصريون أننا شعب يمكنه أن يتقدم دون الالتزام بأبسط القواعد في حياتنا اليومية؟؟ ولماذا نعلم ابنائنا الأخلاق والمبادئ الصحيحة ان كانوا سيكبروا ليروا كل القواعد يتم كسرها والتعامل مع خارقي القانون بمنتهي البساطة واللامبالاة؟؟ هل أبرر لابني تصرفات الناس المختلفة والتي لا تنحصر في المرور فقط بأننا في مصر مثل رد الكثيرون علي أننا لا نعيش في أوروبا، فأجعله يتأقلم بصورة أو بأخرى مع الخطأ ليصبح جزء منه في يوم من الأيام؟ أم استمر في تربيته على المبادئ الصحيحة وأنا أعلم أنه “هيتهزأ” مثله مثلي حين يحاول العمل بما تربى عليه؟