عبد المنعم إبراهيم.. والعودة لرَحِم المسرح قبل الوفاة

أسماء بركة

عبد المنعم إبراهيم عُرف عنه حبه للضحك والحياة، فامتهن “الضحك الهادف” رغم ملازمة الحزن الذي سكن قلبه أحيانًا كثيرة خلال مراحل حياته.. ارتسمت الضحكة مع أدواره، ورُسمت البسمة على شفاه مشاهديه دائمًا، ورغم أنه بدأ في تمثيل التراجيديا إلا أنها بدت لا تليق به، وتلقائيًا كان الحس الفكاهي الكوميدي يغلب جديّته حتى لًوّن جميع أدواره.

رأى حياته بين قوسين التمثيل فقط؛ فعشق من بينهم المسرح على وجه الخصوص، واحتل النسبة الأكبر خلافًا لحبه للسينما والتليفزيون والإذاعة، فقد ولد عبد المنعم ابراهيم محمد حسن الدغبشي ببني سويف إحدى محافظات مصر، يوم 24 أكتوبر عام 1924، وانتقل إلى محافظة الغربية، وتحديدًا إلى قرية ميت بدر حلاوة للعيش مع والديه، لكنهم استقروا بالعاصمة وسكنوا في حي الحسين أولًا ثم انتقلوا إلى عابدين؛ ليكون التحاقه بمدرسة عابدين الأميرية الابتدائية هي ومضة تَعلُقه بالفن واكتشافه في نفس الوقت.

 

حب المسرح

تَعود معرفة “إبراهيم” بهذا العالم الفني منذ أن كان في سن التاسعة، حينما كان يصطحبه والده العاشق للفن معه إلى مسرحيات الفنان الراحل علي الكسار؛ فخلال العرض المسرحي كان يعلو صوت الضحك بجواره، وينبع من قلبه، ليس من أجل الضحك فقط لكن من ملامح “الكسار” السمراء، وطريقة إلقائه، وتمثيلة للدور، الذي انبهر به عن الفنان نجيب الريحاني.

كانت إجازة نهاية العام خلال الصيف تعد فترة ثراء موهبته، إذ كان يلتقي مع أبناء قريته ويذهبوا إلى “الجرن” لتمثيل عرض مسرحي؛ حيث كان يقوم بجلب ما يُشاهده في المدينة معه، ويمزجه مع مشاهد الريف حوله، وما يقوم به عُمدة البلدة، ويتولون العرض كاملًا من أفكار، ونص، وماكياج.

الدور المسرحي الأول

أثناء دراسته بالمرحلة الابتدائية، انضم لفريق الموسيقى بالمدرسة، وساعدة ذلك على الاشتراك في التمثيل؛ وفي تلك الأثناء قام مدرس اللغة العربية آنذاك “حنفي أفندي” بتأليف تمثيلية شعرية إذاعية عن “قناة السويس”؛ وأذيعت بالراديو، ويعتبر هذا الدور بالنسبة لـ “عبدالمنعم إبراهيم” دورا جامعا؛ فقد كان أول دور له على المسرح أمام الجمهور وإن كان جمهور عالمه الصغير، وأول دور “ست” يُسند إليه بتجسيده لدور “قناة السويس”، وأول دور له أيضًا بالإذاعة، وأول نجاح يُمنح بشأنه جائزة، فبعدما حقق دوره -والمسرحية أيضًا- نجاحًا كبيرًا جدًا، مُنح كتاب “أئمة العلم والاختراع” جائزة عنه واحتفظ به.

الدراسة والهواية

تخرج عبدالمنعم إبراهيم من المدرسة الثانوية الصناعية قسم الميكانيكا، وخلال دراسته بها تعرف على الراحل عبد المنعم مدبولي؛ فكان زميل دراسة، وجمعهم حبهم للمسرح.

في عام 1942 جسد رواية “الضحية” على مسرح الأزبكية –المسرح القومي- من إخراج عبد المنعم مدبولي، وظلوا هواة، وفي عام 1944 قرر “إبراهيم” أن يُثقل موهبته بالدراسة، فالتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية فور افتتاحه، ونجح في أن يكون في التصفيات ضمن العشرين طالب النهائي من مجموعة الطلاب المتقدمين، والذي بلغ عددهم في ذلك العام 1500 طالب، ليلتقي بالفنان فريد شوقي، وشكري سرحان، وعمر الحريري، وفاتن حمامه، وسميحة أيوب، فقد كانوا طلاب دفعة واحدة.

ومن هنا بدأت معرفته بالفنان الراحل زكي طليمات الذي تتلمذ على يديه، والذي لفت إليه الأنظار لاكتشاف حسه الفكاهي الذي طغى على أدواره، ففي عام 1945 أثناء امتحان قبوله للمعهد، نجح في التصفيات الأولى، وفي التصفيات النهائية التي على إثرها تُحدد نتيجة قَبوله من عدمه، توفيت والدته قبل الاختبار بيوم، وساءت حالته النفسية وعَزم على التغيّب والانقطاع إلا أن أصدقاءه حفزوه على الذهاب، وفي دوره أدى اختباره ولم ينل إعجاب اللجنة التي تكونت من “طليمات”، ونجيب الريحاني، وجورج أبيض، وحسين رياض، ويوسف وهبي، ومحمد حسن؛ وطلب منه زكي طُليمات أن يؤدي دور “جد” فألقى على مسامعهم أبيات شِعر، وخرج من لجنة الامتحان متوقعا رسوبه، لكنه فوجئ بفوزه ضمن طلاب الدفعة.

وفي عام 1946 فاجأه “طليمات” بإلغاء امتحان نهاية عامه الأول وانتقاله مُباشرة وتقييده بالعام الثاني، واعتبار دوره في المسرحية الشعرية “الجامعة العربية” التي كتبها عزيز أباظة –وهي أول مسرحية قام بكتابتها- هو امتحانه النهائي، والتي جسد فيها عبد المنعم إبراهيم دور بلد لبنان، والتي أقيمت بطنطا، وكان دوره عبارة عن إلقاء 12 بيت شعر عن لبنان، إلا أنه لم يستطع إلقاءهم جملة واحدة؛ فقاطعه الجمهور بالضحك والتصفيق الحاد حوالي 6 مرات.

ومن هنا انبهر به “طليمات”، إلا أن ثقة الأخير لم تخل من الذاتية، التي كانت نتيجتها رسوب عبد المنعم إبراهيم في مادته “فنية المسرح” خلال عامة الثالث بالمعهد، لأنه رفض تجويد عبدالمنعم، وألزمه بالتزامه بكل كلمة تخرج من فمه فقط وعدم التفكير في سواها، فالتزم عبدالمنعم في إعادة الامتحان، ونجح في السنة الثالثة بتفوق، فكان من أوائل دفعته في تلك السنة.

وفي عام 1949 تخرج في معهد الفنون المسرحية، حاملًا شهادته، وخبراته، وعِشقة للمسرح، وزملاءه الهواه.

تحدي النجاح

عام 1963 شكلت مسرحية “حلاق بغداد” من تأليف ألفريد فرج، وإخراج فاروق الدمرداش، نجاحًا كبيرًا في حياة عبدالمنعم إبراهيم المسرحية، فرغم تنبؤ صديقة له بعدم نجاحها، إلا أنه تحدى ذاته أمامها، وهذا لا يمنع من مساورة الشك عقله، وغزو الخوف من قبوله المسرحية قلبه، حيث قرأها حوالي ثلاث مرات ليقرر بعدها قبوله تجسيد دور الحلاق، وحققت المسرحية خلال موسم عرض عام 1964 نجاحًا باهرًا؛ فكانت أكثر مبيعًا على خشبة المسرح القومي آنذاك، وبلغت عدد حفلاتها 33 حفلة، وهو عدد ضخم مقارنة في ذلك الوقت، لُيشكل هذا النجاح فرحة عارمة في نفسه بنشوة انتصار التحدي وإثبات قدرته على النجاح.

وفي عام 1952 خلال عرض مسرحية “مسمار جحا” خلال ثلاثة شهور متتالية، حقق عبد المنعم إبراهيم من خلالها نجاحًا باهرًا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُسند إليه دور كبير يلفت الأنظار. المسرحية كانت من تأليف على أحمد باكثير وإخراج إبراهيم عمارة، وقد هاجمت الاحتلال الإنجليزي لمدينة الكوفة بذكاء وبشكل لا يثير اعتراض الرقابة على مضمونها.

وفي أكتوبر من نفس العام كانت المرة الأولى أيضًا التي يُكتب فيها اسمه على إعلانات المسرحية لتشكل أيضًا سعادة عارمة داخل نفسه.

ضربة الحظ “ألفريد فرج”

استطاع أن يغزل كل من عبدالمنعم إبراهيم وألفريد فرج نجاحا مُتبادلا يبدأ وينتهي عند حدودهم، وتظهر أثاره حولهم في صورة نجاح مُنقطع النظير.

فقد كانت كل الأعمال التي تألّق فيها عبدالمنعم إبراهيم من تأليف “فرج”، وعُرف في الوسط المسرحي بأنه شريكه المسرحي، فقد كتب له دور الحلاق في “حلاق بغداد”، وشخصية “أوفه” في مسرحية “على جناح التريزي”، وشخصية “فهيم” في “عسكر وحرامية”، وأيضًا دوره في مسرحية “بؤبؤ الكسلان”.

كما كوّنا معًا فريقًا مسرحيًا أطلقا عليه “المسرح العربي” ضمّ إليه عبد الرحمن أبو زهرة، محمد الدفراوي، هاله فاخر، ومواهب أخرى؛ وحققوا نجاحًا باهرًا في عرض عروضهم المسرحية على أرض تونس والجزائر، وذاع صيتهم بين الجمهور العربي، وفور عودتهم إلى مصر أُخذ منهم المسرح بالقوة.

تأثر عبد المنعم إبراهيم بشدة عندما سافر شريك نجاحة ألفريد فرج إلى منفى اختياري في لندن مع موجة هجرة المثقفين، اعتراضًا على سياسات الرئيس الراحل محمد أنور السادات مع إسرائيل، ليستمر منفى ألفريد حوالي 11 سنة، أثروا بالسلب على اختيارات عبد المنعم إبراهيم المسرحية لأنه لم يُصادف أي عمل مسرحي بنفس قيمة وقدر كتابته، مما أدى إلى ابتعاده عن المسرح.

وصول النهاية

بعدما ابتعد عبد المنعم إبراهيم عن المسرح قرر العودة إليه من خلال مسرحية “خمس نجوم” للمخرج عادل زكي، وأثناء التجهيز للبروفات، هاتفه المخرج ليخبره بأنه لا داعي للذهاب، لأنه لا يوجد عرض له في هذا اليوم، فأخبره عبدالمنعم إبراهيم نصًا “أنا هاجي لأن مجرد وجودي في المسرح مُتعة حتى لو ما مثلتش ودي حاجة إنت مش هاتدركها”.

وما أسعده أيضًا كان إخباره من خلال فهمي الخولي مدير المسرح الحديث آنذاك أنه سيتم تكريمه في السنة التالية في مهرجان قرطاج المسرحي، وما أسعدة كان الحب المُتبادل بينه وبين الجمهور التونسي.

وفي طريقه قرر الذهاب لبواب العمارة، ليقع عند الباب بدون سابق إنذار، ويُنقل على إثرها للمستشفى، لكنه قبل أن يصل وافته المنية، وكان ذلك في يوم الثلاثاء 17 نوفمبر 1987، ونتيجة إبلاغ وصيّته للفنانه سميحة أيوب بخروج جنازته من المسرح القومي، أُجل دفنه ليوم الخميس 19 نوفمبر من نفس العام؛ فكما اعتبر أن ميلاده كان من المسرح القومي، قرر أن يعود إلى رَحِمه مره أخرى قبل مثواه الأخير.