نزار قباني.. 20 عامًا على رحيل "شاعر الياسمين"

إيمان مندور

أحيانًا نجد ذكرى ميلاد أو وفاة بعض الأشخاص، تحيي كثيرًا من الشجن في النفوس، لا سيما إذا كان صاحب الذكرى له مكانة تثير العاطفة بمجرد الحديث عنه. الشاعر الكبير الراحل نزار قباني يُعد واحدًا من هؤلاء، ففي مثل هذا اليوم منذ 20 عامًا رحل نزار عن عالمنا تاركًا خلفه تاريخًا من القصائد والكلمات التي طالما أراد أن يحوّلها إلى “خبز يومي” لجميع الناس، كما كان يردد دومًا.

لكن الملفت في حياة شاعر اليَاسَمين الدمشقي، أن صداماته لم تكن مع تيار أو اتجاه فكري واحد، بل واجه نقدًا شديدًا من عدة اتجاهات فكرية وحزبية ودينية مختلفة، بسبب أغلب أشعاره، سواء في الغزل أو الدين أو الحرية أو السياسة.

 

نزار والمرأة

لطالما اعتبر نزار قباني أن المرأة هي مصدر الإلهام والحياة والاستمرارية، موجهًا جزءًا كبيرًا من دفاعه عن حقوق الإنسان عمومًا، إلى الحديث بشكل خاص عن حقوق المرأة في مجتمعاتنا العربية، مما أثار انتقادات واسعة ليس فقط بسبب دفاعه “المستميت” عنها، لكن أيضًا لوصفه لها بكلمات وعبارات اعتبرها البعض بـ”الجريئة للغاية” والمخالفة للأعراف والأخلاق والدين، لذا تم اتهامه تارة بالانحلال وتارة أخرى بالزندقة والإلحاد.

برر كثيرون تلك المبالغة بأنها تأثر بانتحار شقيقته عندما حاولت أسرتها إجبارها على الزواج بشخص لا تحبه، حتى إنه قال عنها في مذكراته الخاصة: “صورة أختي وهي تموت من أجل الحُبّ محفورة في لحمي.. كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدويّة”، ورغم أية اعتبارات قيلت حتى الآن، وإن اختلفنا أو اتفقنا معه، لا شك أن نزار كان عاشقًا للمرأة، سواء عبّر عن ذلك بأوصاف جسدية مبالغ فيها، أو بأفكار جريئة قياسًا على ما هو موجود لدينا كعرب من قيم أخلاقية ودينية.

كانت المرأة لديه مرتبطة بكل شيء يمكن كتابته، وأعطت شعره “حضورًا مائيًا” على حدّ تعبيره ونفضت عن أبجديّته الغبار الصحراوي، لكنه لم يكن العاشق الولهان دومًا، بل هاجم بعض النساء أحيانًا، لذا تجد أشعاره وكأنها قاموس عن أحوال المرأة، فإن خانتك ولم تكترث بك، وجدت في شعره ما يغنيك، وإن أحببتها وجدت لديه ما يُعبر عن حالك، لذا “عندما تلجا إليك إمرأة.. مت من أجلها.. فالمرأة لا تلجأ لرجل إلا وكان عندها أعظم الرجال!” على حد قوله.

لماذا تهتم إلى هذا الحد بجمال المرأة؟.. سُئل نزار هذا السؤال في أحد حواراته عندما كبر في السن، فكان جوابه منطقيا إلى حد كبير، وحمل كثيرًا من الصدق، وكان نص رده كالتالي:

“أنا حياتي مراحل.. لذا لا تستطيع أن تقارن شعري الآن بعدما كبرت في السن، وشعري في ديوان طفولة نهد الذي كتبته قديمًا، رغم أني الآن أحب عنوانه على الأقل لكن لا أعتبره الآن يمثلني، لأن مكياج المرأة حاليًا الذي يمكن من خلاله أن أحبها هو مكياج الثقافة.. أنا لا أستطيع الآن أن أحتمل امرأة جميلة وغبية، فأسوأ مصادر الشعر هن ملكات الجمال بالعالم، لأن جمالها رائع بكل المقاييس لكن في الحقيقة عقلها لا يساوي شيئًا”.

“يقولون أني وصفت المرأة بأوصاف مبالغ فيها، لكن ماذا تتخيل أن يكتب شاب بالعشرين وقتها من عمره، وكأنه أمسك كاميرا وطلبوا منه أن يصوّر الشقراء والسمراء والجميلة و…و…إلخ، لكن أنا في هذه السن الكبيرة الآن صارت المرأة بالنسبة لي حوارًا ثقافيًا وسياسيًا، لذلك أعتقد أنني حملت المرأة على كتفي 50 عامًا وقاتلت من أجلها وفي سبيل قضيتها”.

كاظم مترجم القصائد

حالة من الارتباط الوثيق بين شهرة الفنان العراقي الكبير كاظم الساهر وقصائد الراحل نزار قباني، نتجت من المزج بين كلمات ومعاني الأخير وبين صوت وأداء الساهر في قصائده، رغم أنه تم تعديل الكثير من كلمات أشعاره التي تغنى بها، والتي كانت تحمل معاني وأوصاف “جريئة” لدرجة كبيرة، حتى لا يواجه مغنيها ما ناله كاتبها من اتهامات على إثرها.

“لم تتعبني قصيدة مثل تلك”.. هكذا تحدث كاظم الساهر عن قصيدة “أحبيني” وذلك بسبب ما وصفه فيها بـ”الجرأة الزائدة” التي لم يستطع التخلص منها كاملًة، لكنه عدّل بعضها، واضطر إلى حذف البيت الذي يقول فيه نزار: “بعيدًا عن مدينتنا التي إليها الله لا يأتي”، وتبديله بقول “بعيدًا عن مدينتنا التي شبعت من الموت”.

أما الأشياء التي تعلمها من نزار، قال “الساهر” في أحد حواراته: “تعلمت منه أشياء جميلة. كان يكتب وهو على فراش المرض، وعندما كتب آخر قصائده، الحب المستحيل، كتبها وكأنها أول أغنية في حياته. ابنته هدباء كانت تقول له لماذا تكتب وأنت مريض؟، فكان يجيبها: يجب أن أنهيها لكاظم.. كان يكتب وكأنه شاب صغير ومتحمس لأن يكون العمل أجمل ما يكون”.

 

إسقاط واقعي

من خلال تدقيق البحث في شخصية نزار قباني الشعرية، تبين أنه يمكن من خلالها صنع إسقاط واقعي بين باقي المهن والشخصيات الأخرى وبين الوطن بكل سهولة.

فقد أكّد نزار مرارًا على إيمانه بأن مكان الشاعر الأساسي هو على خط المواجهة، وليس في الصفوف الخلفية، لكن في الحقيقة كل المهن تقف على خط واحد بالتوازي؛ الطبيب الناجح والشاعر الناجح وكذلك القائد والمعلم والمربي والفنان والكاتب والسائق والحقوقي والإعلامي… إلى آخره من اختلاف مسميات المهن، والتي هي في الحقيقة خط الدفاع الأول عن كل أرض، وأي خلل وتراجع في مهنة من المهن يؤدي إلى الإخلال بوحدة واصطفاف الوطن.

“ما هو الشعر إذا لم يعلن العصيان، وما هو الشعر إذا لم يسقط الطغاة والطغيان، وما هو الشعر إذا لم يحدث الزلزال في الزمان والمكان”… هكذا تحدث الشاعر الراحل في أحد حوارته معلنًا أن القصيدة التي تخشى من السيف، خير لها أن تدخل إلى غرفة نومها وتنام، لأن الشعر عملية صدامية من الطراز الأول.

كان دائم الانتقاد لجبن بعض الكتّاب عن مواجهة الأزمات الشائكة، قائلاً “هناك كُتّاب يريدون أن يؤمّنوا على أصابعهم، وهناك كُتّاب يكتبون بأصبع أو أصبعين ويخبئون بقية الأصابع في جواريرهم، لكن هذا يجب أن يُسمى شعر أنصاف الحلول أو شعر بين بين.. نحن نعيش في هذا العالم الثالث الذي يشتعل من حولنا، ولا يمكن للشاعر بأي شكل من الأشكال أن يلبس بيجامته الحريرية، ويطلب قَدَح ينسون، ويرفع سماعة الهاتف ويقول لخادمته: إذا سأل عني رجل يسمى التاريخ فقولي له إنني لست هنا.”

في الختام، كان نزار قباني يستشهد كثيرًا بمقولة الروائي الكبير يوسف إدريس: “كل الكمية المعطاة من الحرية في الوطن العربي، لا تكفي كاتبًا واحدًا”، وبالفعل يبدو أن هذه العبارة تنطبق على مسيرته في عالم الشعر والأدب، الذي واجه فيه انتقادات لم يقف مداها عند حدود قبره.

أدري.

بأن شعري ليس له ثواب

والحب ليس له ثواب

وبرغم هذا كله..

مازلت من خمسين عامًا

سائرًا نحو الخراب