خمسون عامًا في حضرة "شيخ المدّاحين"

 إيمان مندور

على مدار تاريخ الإنشاد الديني في مصر، كانت حلقات الذِّكر والثناء على الله ورسوله، أو _بمعنى أوضح_ ما يُعرف بـ”الحضرة” سواء كانت خاصة أو عامة، بمثابة مزج من نوع خاص بين تراث العارفين وحناجر المنشدين، يؤدي إلى وصول معاني العشق الإلهي في حالة روحانية ذات عمق كبير، يدركه البسيط والعالِم على حد سواء.

وما بين اختلاف تعريفات الحضرة بين المتصوفة، سواء كونها عرش قلوب العارفين كما يقولون، أو إمكانية الوصول إلى لحظة الصفاء العلوية ببعض الطقوس والكلمات، أو أنها موطن من مواطن القرب والمشاهدة لصفاته تعالى، إلا أنها تبقى حالة شعورية، لا يمكن وصفها إلا بمعايشتها عن طريق التجربة.

منذ أيام، حلّ الشيخ ياسين التهامي، ضيفًا على الإعلامي أسامة كمال ببرنامج “مساء dmc”، في حلقة خاصة عن الإنشاد الديني، كاشفًا عن رحلته في عالم الابتهالات ومجالس الذكر والتصوّف، التي جاءت بمحض الصدفة حيث لا ترتيب ولا زمن، على حد قوله.

والمتابع باستمرار لهذا الشأن، يدرك أن الحديث عن الإنشاد الديني في حضرة “التهامي”، حديث ذو شجون، لأنك لا تستمع لمجرد منشد، بل لمسيرة بدأت منذ ما يقرب من خمسين عامًا، حَمَل خلالها صاحبها العديد من الألقاب من مستمعيه، فهو “أمير المداحين” و”شيخ المدّاحين” و”بلبل الإنشاد”، و”ظاهرة الشرق” كما أطلقت عليه إحدى الصحف الإسبانية من قبل.

التهامي الصغير

في مطلع ديسمبر 1949، ولد ياسين التهامي في صعيد مصر، على الشاطئ الغربي للنيل بإحدى قرى محافظة أسيوط، لأب وصفه كل من عرفه بأنه كان عابداً زاهداً, ولياً من أولياء الله، كما يقولون، الأمر الذي دعا “التهامي الصغير” إلى التأثر به بشدة.

لكنه ترك الدراسة، بعد أن وصل إلي الصف الثاني الثانوي الأزهري وحفظ القرآن الكريم كاملًا، لظروف عائلية، واعتزل عن الناس لعامين متواصلين, قرأ خلالهما مئات القصائد لعمالقة الشعر الصوفي، أمثال محيي الدين بن عربي، عمر بن الفارض، منصور الحلاج، عبد القادر الجيلاني، عبد الكريم الجيلي وغيرهم، ثم انطلق بعدها ليُبحر في عالم الصوفية, ليصبح واحدًا من أهم أعلام دولة الإنشاد، ومدح سيدنا رسول الله “صلي الله عليه وسلم” وآل بيته الكرام.

https://www.youtube.com/watch?v=kF26pGBXjjw

رحلة الإنشاد

بدأ “التهامي” رحلته بالإنشاد الديني في الموالد والحفلات الدينية بقرى ونجوع الصعيد، حتى سطع نجمه في منتصف السبعينيات ليتربع على عرش الإنشاد الديني في مصر حتى الآن، خاصة لدى أهل الصعيد الذين أصبح ملبسه وهيئته “موضة” لشبابهم، وامتدت شهرته خارج مصر والعالم العربي؛ فأحيا العديد من الحفلات في الدول الأجنبية، لاسيما في مهرجانات الموسيقى الروحية.

سمات شخصية

من خلال متابعة الشيخ ياسين التهامي في أحاديثه وحواراته وقصائده، تستطيع أن تلاحظ سمات كثيرة في شخصيته، فهو الهادئ صاحب الحنجرة المتزنة. يشدو في مدح رسول الله وآله حتى يدخلك في حالة من النشوة، لكنه يظل محافظًا على ضبط إيقاع الحضرة بصمته وصوته، فيصدح بالمدح حتى تتمايل القلوب، ويهدأ في مواطن الفهم حتى تسكن النفوس.

صوت مميز

ذات مرة أحيا ياسين التهامي، ليلة كاملة في مهرجان الموسيقى الروحية الذي تستضيفه العاصمة البريطانية لندن كل عام، واختصر مقدم الحفل ليلتها كلمته قائلًا “ياسين شيء مختلف لا نستطيع تقديمه؛ لذا فمن الأفضل أن نتركه يقدم نفسه من خلال غنائه وموسيقاه وشكل أدائه الذي يشبه البوح”، بينما وصفته هيئة الإذاعة البريطانية بأنه صاحب صوت إنساني فضفاض يستوعب أي إنسان على اختلاف لغته وموسيقاه.

ووفقًا لتقارير صحفية، فإن باحثة بريطانية تدير مركزًا للعلاج النفسي في لندن، قدمت إلى مصر لإعداد دراسة سيكولوجية عن إنشاد الشيخ ياسين التهامي كطريقة للعلاج النفسي، تسعى لتطبيقها في مركزها الخاص للعلاج النفسي في لندن، بعدما وصفت صوته بأنه لا يحتاج إلى أن تفهم لغته، بل يكفيك أن تشعر به وكفى!.

كما فاز بالجائزة الأولى بإنجلترا على مستوى القارات الست، حيث نال جائزة أفضل صوت وأفضل أداء وأفضل قصيدة، ليكون المصري الوحيد الذي فاز بهذه الجائزة كأفضل حنجرة ذهبية، أيضًا تمت مناقشة رسالة دكتوراه عنه في جامعة الأزهر بأسيوط، بعنوان “دور الشيخ ياسين في إحياء الشعر العربي وجعله على ألسنة العامة”.

وكتب عنه مايكل شيرش في جريدة الإندبندنت البريطانية في يونيه 1999، تحت عنوان “الأناشيد الصوفية للشيخ ياسين التهامي جعلته واحدا من نجوم مصر”.

اللغة والجمهور

للشيخ ياسين التهامي علاقة فريدة من نوع خاص مع جمهوره، على اختلاف طبقاتهم، والتي تعتمد التفاعل والتأثير المتبادل، خاصة أنه ينشد في الميادين والموالد مباشرة إلى آلاف الجماهير الموجودة في الشوارع، والتي يكون أغلبها من العامة والبسطاء، لكن رغم ذلك استطاع أن يُقدّم أصعب القصائد من حيث اللغة والمعنى، بأسلوب روحاني يعتمد على توصيل المعنى والحرف، مما مكّن العامة و”الأميين” من جمهوره، من حفظ الكثير من القصائد العربية بنطقها الصحيح، وبمعناها الواسع، بطريقة يصعب على كثيرٍ من المتعلمين والمثقفين فهمها، إن لم يكونوا على قدر عال من الفهم في قواعد اللغة ومفرداتها.