"محمد حسان" يستدعي "البوصيري" فى حضرة صوفية - E3lam.Com

نسمة سمير

الحب هو المنجي، المنقذ الذي يُخلصنا من شرور أنفسنا ويُطهرنا كثوب تلطخ بدنس الحياة، يشد على أيدينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور، يُحررنا من أغلال الكره والحقد والكبر، الكبر تلك الخطية الكبرى التى لُعن أبليس بسببها إلى يوم يبعثون، فالمحب الحق يفنى فى محبوبه، يُثني عليه فى غيابه لا حضوره، لأن الصمت فى حضرة المحبوب فرض، فلا ينتظر مقابل لحبه كل ما يريده فقط هو الوصل، فالأرواح لا ينقطع وصلها مهما كان البعد، واجهوا الشدائد بالحب، فله سر عجيب تعجز أمامه المِحَنٌ، وله كرامات تُبهت لها العقول، داووا قلوبكم وعللكم بالحب، وسلامًا على من علمنا الحب حبيب الله ومحبوبه محمد بن عبد الله من أحبنا دون أن يرانا.

جلست فى مقعد خلفي بالمسرح كي أتابع عملي المحبب وهو متابعة العروض للكتابة عنها، وفجأة تم إظلام المسرح وسمعت صوتا يقول لي: “أتحبين أن تعودي إلى العصر المملوكي فى رحلة قصيرة”، قلت له “بالطبع .. فأنا أعشق الماضي وأتوق لمعايشته”، فقال: “إذن .. هيا بنا ياصغيرة”، وجدت نفسي بجوار مسجد “أبو العباس المرسي” بالإسكندرية، أجلس على حصير بجوار شيخ له هيبة وضحكة نقية يرتدي عباءة سوداء أسفلها جلباب أبيض وعلى رأسه عمامة ولحيته تُلقى بوقار عظيم على وجهه، يعمل فى كتابة المخطوطات، فنظر لي قائلا بصوت مُطمئن: ” أنا الفقير إلى الله، محمد بن سعيد البوصيري، وفدت إلى الإسكندرية ولازمت “أبو العباس المرسي” وتتلمذت على يده ومعي “أبو العطاء السكندري”، الذى نهج لسان النثر، ونهجت أنا لسان الشعر”.

جلس البوصيري يكتب، ثم قال لي: ” بحث عني خادم البردة محمد حسان عاشور، حتى يُعرف الناس بقصة كتابتها، وفجأة أمسك بذراعه الأيسر مصيحًا “لا أشعر بذراعي أصابني الشلل وما لرجل فقير مثلي مال ولا سلطة ليذهب إلى الأطباء، كل ما أملكه هو قلبًا ولسانًا ينبضان بحب رسول الله فى قصيدة أتوسل الله بها أن يعافيني “، وهنا سمعت أصوات عذبة تردد “مولاي صلي وسلم دائماً أبدا .. على حبيبك خير الخلق كلهم .. أمن تذكر جيرانٍ بذى سلم .. مزجت دمعا جَرَى من مقلةٍ بدم .. أَمْ هبَّت الريحُ مِنْ تلقاءِ كاظمةٍ ..وأَومض البرق في الظَّلْماءِ من إِضم”، وقال البوصيري لي” لا أعلم هل كنت أشتاق لمحبوبتي حقا أم من حرقة شوقى جرى دمعي وكأنه أصابه الشيب كبياض عين يعقوب من الحزن على يوسف، فألتمس فى رائحة الريح عطر الحبيب رسول الله وكأني أسمعه يقول : ” بعث الله السحاب فنطقت أحسن النطق ، وضحكت أحسن الضحك ، فالرعد نطقها ، والبرق ضحكها “، حقًا عين العاشق بالحب تفضحه ولا يفلح إنكار ولا هرب.

“يا لائمي في الهوى العذري معذرة .. مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ .. عدتك حالي لا سري بمستتر .. عن الوشاة ولا دائي بمنحسم”، قلت له أتقصد قبيلة بني عُذره التى أدى بهم الحب إلى الموت، قال لي” نعم، فالمحب بمجرد بوحه بتملك العشق من قلبه، تنهال عليه سهام اللوم تقتله، فيجب أن يعذر اللائم المحب فقلبه ليس بيده فالعشق ليس اختياريا، “فلا ينبغي للشخص أن يتكلم على حال إلا إذا ذاقها”، فقلت له كما قال ابن الفارض “دعْ عنكَ تعنيفي وذقْ طعمَ الهوى, فإذا عشقتَ فبعدَ ذلكَ عنِّفِ”، ولكني لا أعلم كيف لم تستمع لنصيح شيبك رغم أنه أبعد النصحاء عن التهمة، فتنهد ثم قال ” إنى اتهمت نصيح الشيب في عذلي .. والشيب أبعد في نصح عن التهتمِ، فإن أمارتي بالسوءِ ما أتعظت .. من جهلها بنذير الشيب والهرم”.

ورأيته يكتب، “فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها .. إن الطعام يقوي شهوة النَّهم، والنفس كالطفل إن تهملهُ شبَّ على ..حب الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطم”، فقلت: حقا من من شبَّ على شيء شاب عليه، قصت لي جدتي حكاية فى طفولتي، إن “أبو زيد البسطامي” قام يتهجد الليل ، فرأى ابنه الصغير إلى جواره ، فأشفق عليه لصغره و شدة البرد و مشقة السهر، فقال له : ارقد يا بُنيّ فأمامك ليلٌ طويل أنت لازلت طفل لم تبلغ الحلم بعد، فقال الغلام : يا أبتي إني أرى أمي تبدأ بصغار قطع الحطب لتشعل كبارها ، فأخشى أن يبدأ الله بنا يوم القيامة قبل الكبار إن نحن أهملنا في طاعته، كما أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين كان بطنه يُحدث أصواتًا من كثرة ما أكل بالزيت، فكان يقول لبطنه: “قرقري أو لا تقرقري، لن تذوقي اللحم حتى يشبع أطفال المسلمين”، فنظر لي البوصيري مبتسما قائلا أحسنتي “فلا تهملوا البذر .. لتجنوا أطيب الثمر”.

فأعطاني رقعة مدون عليها “واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت .. من المحارم والزم حمية الندمِ، وخالف النفس والشيطان واعصهما .. وإن هما محضاك النصح فاتَّهِم”، وقال: الدمع يطهر صاحبه، علينا أن نبكي حتى تفرغ من الدمع أعيوننا التي ملأناها إثما بالنظر إلى المحارم، فقلت له: وعند الصوفية وأهل الحب رؤية الأغيار بها، فتبسم وأكمل حديثه “المواظبة على الندم فهو توبة ويعصمنا من أشد أعداءنا النفس والشيطان، فقاطعته قائلة: هل نفسي عدوا لي، فقال لي “النفس منحة ربانية، هى الروح قبل تعلقها بالأجساد، فخلق الله الروح قبل الجسد بألفي عام، وكانت تجلس فى حضرته، حتى تعلقت بالجسد فأصبحت نفسا ونست فطرتها واحتاجت لمذكر فقال تعالى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة.

ونام البوصيري قليلًا، وجلست أقرأ أبيات قصيدته، “هو الحبيب الذي ترجى شفاعته .. لكل هولٍ من الأهوال مقتحم، دعا إلى الله فالمستسكون به .. مستمسكون بحبلٍ غير منفصم”، وهنا استيقظ البوصيري وحرك ذراعه الأيسر، مهلالا “لقد شفيت بحب رسول الله” بعد أن رأى الرسول فى منامه، وخرج من البيت وخرجت خلفه فوجدت رجلًا فقيرًا يقترب من البوصيري قائلا: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال البوصيري: أي قصائدي؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها وقال الفقير: والله إني سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة، ولم يكن البوصيري أعلم أحدًا برؤيته تلك ومن بعدها شاعت الرؤيا، حتى أن وزير الظاهر بيبرس نسخها ونذر أن لا يسمعها إلا وهو قائم على قدميه حافيا مكشوف الرأس.

ردد البوصيري “ومن تكن برسول الله نصرته .. إن تلقه الأسد فى آجامها تجمِ”، قلت له: لا أفهم المعنى، فقال: كان هناك ﺻﺤﺎﺑﻲ ﺷﺪﻳﺪ ﺍﻟﺒﺄﺱ اسمه أبا عبد الرحمن، أطلق عليه الرسول “سفينة” لشدة تحمله السفر فى الصحراء، وفى يوم ﺿﻞ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻓﺮﺃﻯ أسدًا وكان يسمى وقتها الأسد “أبا الحارث”، فنظر للأسد وقال: “ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺍﻟﺤﺎﺭﺙ ﺃﻧﺎ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻣﻮﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ”، ﻓﻄﺄﻃﺄ ﺍﻷﺳﺪ ﺭﺃﺳﻪ ﻭﺃﻗﺒﻞ ﻋﻠﻰ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻭﺣﻤﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺗﻘﻪ ﻭﺧﺮﺝ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﺎﺑﺔ ﺣﺘﻰ ﺩﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ، ﺛﻢ ﺭﺟﻊ ﻗﻠﻴﻼ، ﺛﻢ ﺃﺧﺬ ﻳﻬﻤﻬﻢ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻮﺩﻋﻪ، لمعت عيناي وقلت له: حقًا حب رسول الله شافع، فقال: ولكن انتبهي فكان هناك رجلًا يدعى الغزنوي كان يقرأ البردة كل ليلة ليرى النبي فى منامنه، ولكنه لم يفلح، لأنه لم يراعى شروطها، فسألته: ما شروطها؟، الصلاة الخالصة حبًا لا طمعًا، فحبيبنا هو خير خلق الله كلهم، فكرامات البردة لا ينالها إلا المحب الزاهد فالمعجزات لا تُمنح إلا للصادقين.

وسمعت صوت أستاذي محمد حسان عاشور، يقول لي: “وهذه هى قصة كتابة البردة، والتى سُميت بذلك نسبة إلى بردة النبى التي خلعها على كعب بن زهير عندما مدحة بقصيدته الشهيرة: “بانت سعاد”، وقيل أن البوصيري عارض كعب فيها قائلا ” إلى متى أنتَ باللَّذَّاتِ مَشغُولُ .. وَأنتَ عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسؤُولُ”، فلما نظم البوصيرى قصديته كوفئ عليها بأن خلع النبى عليه بردته في رؤيا رآها، فأصبحت هي المشهورة بين الناس بالبردة أو “البرأة” لأنه شفي بها من الشلل، فأدركت أن ما رأيته كان حلم يقظة من فرط جمال ما قاله “حسان”.

“بردة البوصيري” أوبريت قام الكاتب محمد حسان عاشور بتأليفه ومعالجته دراميا، ويشارك فيه بالغناء محسن فاروق ومحمد محسن وريهام عبدالحكيم وأجفان الأمير والشيخ المحمدى عمار والشيخ محمد راضى الشريف من المدينة المنورة بالسعودية، وصوت يشبه أزيز باب الجنة وهو الشيخ يحيى بيهاكى من تنزانيا، والذى تربى على يد تلاميذ البعثات المصرية التى كان يرسلها “عبد الناصر” لأفريقيا لتعليمهم الدين الإسلامى والتلاوات القرآنية، وسهيلة بهجت (15 سنة)، والإلقاء حمزة العيلي فى دور “البوصيري”، والفنان محمد لطفى ومن الممثلين محمد عصام ومخرج منفذ الفنان ماهر محمود، وإضاءة دكتور وائل عبد المنعم وملابس العرض لرؤى مجدى وموسيقى الدكتور ممدوح الجبالي وبقيادة المايسترو أميرعبدالمجيد، والعمل مدته 70 دقيقة، يعرض فى أوبرا مسقط بسلطنة عمان يوم 23 مارس المقبل.