موسيقى الجيل (2) | "شبابيك" .. حَنين فوق نيل الزمالك - E3lam.Com

“جينا نمسيكم بالخير يالعمارة العمارة” .. الصوت القادم من الكاسيت “السوني” الأحمر في غرفة عمي لم يكن واضحًا ، تماما كالكلمات التي يغنيها هذا المطرب ولا أفهمها ، بالنسبة لطفل في العاشرة لا تبدو أغنيات محمد منير شرارة توقد ذوقه الفني مبكرًا ، ربما كان حميد الشاعري ومصطفى قمر الأقرب لي وقتها ، لا أتذكر سببًا حقيقًا لإعجابي الخاطف بمصطفى قمر في تلك المرحلة ، ولكنني الأن أجدني مقتنعا بأن محمد منير مطرب يسمعه الكبار ، هكذا قال لي عمي عندما سألته : لماذا تسمع منير ؟

نرشح لك : موسيقى الجيل (1) | إلى أبي .. عنوان بيتنا زي ماكان

المسافة من صيف 1991 إلى شتاء 2016 تحمل تفاصيل كل شي تغير في علاقة ما بين أذني والملك ، ثمة قصص وذكريات وحكايات تجعل لكلمة منير معنى ، وأماكن نلتقي فيها كلما رافقني الحنين لحكاية كان صوته شاهدًا عليها ، بداية من صيف حار في غرفة عمي في منزل العائلة ، وصولًا إلى شتاء بارد فوق “روف كافية” يطل على نيل الزمالك فهمت لماذا ظل منير حاضرًا ، ولماذا رافقني كظل منذ أن أثار شغفي لمعرفة من هي “ليلى” التي غنى لها ، ولماذا يجرفني حنين مجنون لماضي بعيد كلما سمعت “شبابيك” ؟

كانت شبابيك نقلة في مشوار المطرب الشاب محمد منير ، ثالث ألبوماته وأكثرها وضوحا في مشروع فني وليد على يدي عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب وأحمد منيب ، ولكنها لمسة يحيى خليل السحرية ، الموسيقى العائد من أمريكا بثقافة “الجاز” التي اخترعها السود . موسيقى طازجة تجري في تجاعيد حفرت ملامحها على وجه الأغنية المصرية طوال حقبة السبعينات ، سنوات رحيل العمالقة والبحث عن بديل في أصوات لا تملك الجرأة على الخروج من برواز أصبح ضيقًا أمام عالم تتسع وتتمدد فيه كل الأفكار والمفاهيم.

ثمة رصاصة للتغيير أطلقها هاني شنودة ، وتحمس لها عبد الرحيم منصور ومعه أحمد منيب وفؤاد حداد ، وسار خلفها يحيى خليل وفتحي سلامة بفرقة “يحيى خليل” التي انضم لها محمد منير في البداية بعد أن استمع له عبد الرحيم منصور وأقنع أحمد منيب أن هذا الشاب هو الرقم المتبقي لإكمال معادلة تبدأ بالفلكلور النوبي وتنتهي بتمصير “الجاز” على يدي يحيى خليل .

صورة نادرة لـ محمد منير وأحمد منيب

لم يكن نجاح أول تجربتين لمنير في ألبومي “بنتولد” و “علموني عنيكي” مدويًا ، عملين أقرب لقراءة خجولة لذوق جيل يقف على عتبات الشباب ، كان الجامعيون من مثقفي الريف هم الأكثر حماسًا للمشروع ، الجيل الذي تحمس لفهم أشعار نجم وألحان الشيخ إمام كقاعدة لمشروع الأغنية الحُرة ، يتقبل الفكرة الجديدة شكلًا ومضمونًا ، ويدعم منير بقوة في مشروع “شبابيك” الذي حقق أعلى مبيعات في تاريخ ألبومات محمد منير ، تصدر الألبوم أغنية “الليلة ياسمرا” التي وجدت ألف تفسير أكثرها وضوحًا أن فؤاد حداد كتب قصيدة طويلة في حب مصر واختار فريق العمل ثلاثة كوبليهات تحديدًا لتمثل الأغنية ، وقيل وقتها أن مصر هي السمراء التى طلبت فستانها من الشط التانى من القناة فنهض المصريون وحطموا خط بارليف وعدى المعدي وعداها. ربما تكمن العبقرية أن لحن أحمد منيب جاء راقصًا رشيقا في لوحة وزعها يحيى خليق ليحلق بمستمعيها عاليًا في حفلات الجامعات التي كانت معيارًا حقيقيًا شعبية منير قبل أن يصبح ملكًا .

أتجول بين كل أغاني منير ، تخطفني دهشة ما في كل مرة ، وما ألبث أن أعود مجددًا إلى “شبابيك” ، تستقبلني بلسعة برد منعشة ، وابتسامة نادل يعرف مشروبي المفضل ، أجلس في أبعد زاوية إلى جوار السور كمن يحتضن النيل من الطابق العاشر ، أشك أن شخصًا هنا تمرس على فتح الذكريات بمشرط حاد يخبئة في “قائمة الأغاني” المفضلة له ، على الناحية الأخرى جلس رجل في مطلع الخمسينات يحاور خياله بمجرد أن قالت ميادة : “عسل ومر انت .. وفاء وغدر انت ” ، وفتاة هناك تقاوم دموعها عندما سمعت صولو الجيتار في أداء فرقة “مسار إجباري” لرائعة سيد درويش “أنا هويت” ، أما أنا فأستعيد لقاء قديم مع محمد منير قال لي فيه شيئًا من قصة “شبابيك” ، كنت قد سألته : هل أصبحت ترى الحياة من خلال “شبابيك” تعيش وراءها في عالمك الخاص ؟

قال وهو يجاهد لتليين مفاصل ذاكرته : ” هل تعرف أن مجدي نجيب كتب هذه الأغنية في السجن؟ كان معتقلًا في الستينات ، لم يكن لديه سوى شباك صغير يطل منه مختصرًا علاقته بالعالم في هذه النافذة الصغيرة ، فكتب جملته “الدنيا شبابيك”.

مجدي نجيب “شوكة الأحاسيس” كما لقبه بليغ حمدي ، هو مزيج مدهش من الفنون في إنسان ، شاعر وفنان تشكيلي ونحات ولهذا ليس غريبًا أن تكون كلمات أغانيه أقرب إلى صور يغزلها الخيال ، يصف مجدي نجيب شبابيك بالسنبلة الحزينة في بستان أغانيه ، ومثلما كان الشباك فاصلًا بين عالمين في الحقيقة كان أيضا جسرًا بين عالمين في القصيدة .

رأى مجدي نجيب العالم من شباك بينما عاد ليعاتب محبوبته مصر التي كانت سببا في وجودة داخل هذه الزنزانة ، عتاب محب وهو يقول : سرقت عمرى من أحزانى سرقتة لكن ماجانى .. ولا حد شاف فين مكانى ورا الشبابيك .

ثم يعود مخاطبًا نفسه بشجن لايخلو من جلد للذات وهو يقول : أنا بعت الدموع والعمر طرحت جناينى فى الربيع الصبر .. وقولت انا عاشق سقونى كتير المر ورى الشبابيك .

تخلي أحمد منيب عن اللحن التطريبي كان قاعدة لمزاج نوبي يسيطر على كل أعماله ، ولكن يحيى خليل كموزع تجاوز إلى حد كبير قواعد مدرسة الجاز مدركًا إمكانيات فرقته المحدودة ، حيث لايكفي أربعة أفراد فقط لتقديم خط وتريات ساحر كالذي لعب الصولو البديع في مطلع الأغنية ليستمر متصاعدا في الخلفية طوال الأغنية .

 

وُلد صوت محمد منير كبيرًا بكلمات عمالقة مثل فؤاد حداد وعبد الرحيم منصور ومجدي نجيب وصلاح جاهين ، وألحان أحمد منيب وبليغ حمدي وهاني شنودة ، ولكنه في الطريق تخلى عنهم معتقدًا أنه قادر على الاستمرار والنجاح دون أصحاب المشروع الحقيقيين ، وهو ما صرح به في حوار نشرته مجلة الكواكب قائلا : “يمكنني العمل مع شعراء وملحنين وموزعين لا يعرفهم أحد، وأغنى بهم ” ريان يا فجل ” وسأنجح وأكسر الدنيا !”.

كانت النتيجة مخيبة جماهيريًا وفنيا في سنوات “الفجل” التي تاه فيها مشروع منير ، توهة تجسدت في إعادة توزيع أغاني ألبوماته الخمس الأوائل وطرحها في ألبوم “مشوار” عام 1991 ، وقتها قالوأ أن منير سيعتزل بينما كذب هو الشائعة في العام التالي بصدور ألبوم “الطول واللون والحرية” الذي بدى كمحاولة لاستعادة شيئًا من رائحة تجاربة الأولى ، ولكن ثمة شيء انكسر في علاقة منير بجمهورة المؤمن به كمشروع ، كان الآباء الروحيون للتجربة يراقبون في صمت بينما هو يقفز من محطة لأخرى ، حتى وصل إلى ألبوم “افتح قلبك” عام 1994 ، ظهر منير ناضجًا متخليا عن حالة “الزعيق السياسي” التي تلبسته أعلاميًا وفنيًا ، لحظة قرر فيها الإنحياز للفن فتعاون مجددا مع عبد الرحيم منصور ، واستعان بحسين الإمام ملحنًا وفتحي سلامة الصديق القديم في فرقة “يحيى خليل” ، وتصدرت أغنية “لو بطلنا نحلم نموت” الشاشات كمؤشر لعودة قوية ولكنها لم تكن كذلك .

في عام 1995 صدر ألبوم “ممكن” ، وتأكد معه منير أن فراغ مجدي نجيب لايملأه شاعر آخر فكتب له “ممكن” و “حواديت” الأغنيتين الأبرز في العمل ، وظهرت بقوة الشاعرة كوثر مصطفى بينما اكتفى الخال الأبنودي بأغنية “الليلة ديه” .

استمراراً لنفس الحالة قدم منير في عام 1996 ألبوم ” من أول لمسة” ، كتبها له أيضا مجدي نجيب ولحنها وجيه عزيز ، ولم يكتف مجدي بها فقط بل كتب له أيضا ” يا أنا” ، و ” ليلى” ، استعاد منير جمهوره المخلص ، وفَهِم هذا الجمهور أن مجدي نجيب هو الجملة المفقودة في صوت منير طوال السنوات الماضية.

الشاعر مجدي نجيب

في صيف 1999 طرقت أبواب الجامعة ، كنت أحمل إعجابا صاخبًا بعمرو دياب ، وأخبيء تذوقًا خاصًا لمحمد محيي الغارق في الشجن ، وفي قائمتي المفضلة يتربع دائمًا حميد الشاعري ومن وراءه خفة الظل المتفجرة في صوت هشام عباس ، إلا أن منير كان حاضرًا بألبومه “الفرحة” ، صحيح أنه استعان بجيل جديد تعاون معه لأول مرة مثل الشاعر احمد أبو ذكري وعبد المنعم طه إلا أن مجدي نجيب تواجد أيضا بأغنيتي “حاضر” و “انتي” ليحتفظ لمنير بنكهة المشروع القديم . ظلت أغنية “يالالي” التي كتبها حافظ الصادق ولحنها فوز الجمل تغريد واضح خارج السرب بسلطنة شرقية تدغدغ المشاعر ، واستمرت حكايتي مع منير حتى دخل عالم المنتج نصر محروس ، أو كما أراه تاجر النجاح المضمون في تلك المرحلة ، أظن أن البحث عن جمهور جديد كان البند الأول في اتفاق منير ونصر وهو ما اتضح في ألبوم “في عشق البنات” ، أصبح منير صوتًا شعبويًا له أولتراس ودراويش ومريدين ، وظهر لقب الملك كبديل لإسم منير ، وجرت مقارنات صحفية هشة لا رابط فني حقيقي فيها بين منير وبوب مارلي ، فقدت منير الذي أعرفه ، واستعدته الأن في هذا الركن مختبئًا مع ذكريات تطاردني كلما غنينا سويًا : “وقلت أنا عاشق سقوني كتير المر ورا الشبابيك”.

للقصة بقية :

بقى الخلاف بين منير ويحيى خليل كنيران خامدة تحت رماد الدبلوماسية ، نجاح مدوي في وقت قصير أعقبته قطيعة بعد ألبوم “بريء” في منتصف الثمانينات ، وصلت إلى حد إزالة منير لإسم يحيى خليل من على الإصدارات الحديثة لألبوماته القديمة وتحديدا “شبابيك”.

منير يغني “أشكي لمين” مع فرقة يحيى خليل


ظل سبب الخلاف مجهولًا في ظل رفض يحيى خليل الإفصاح عنه ، وتعالي منير عن الإجابة على سؤال واضح هو : لماذا اختلفت مع يحيى خليل ؟

إلا أن كلاهما لم يكف عن الإنتقاص من قدر الآخر في مشاكسات صحفية كلما أتيحت الفرصة مهما مر الزمن ، ففي عام 2006 أحيا مارسيل خليفة حفلا في مصر ، وعلى هامشه سأل صحفي يحيى خليل حول رأيه في تجربه مارسيل خليفة ، وهل لدينا مثلها في مصر ؟ فأجاب قائلًا : ” ليس لدينا مثله وأرفض وصفه بالتجربة الفنية السياسية ”
فعقب الصحفي قائلة : نحن لدينا محمد منير ! ، فقال خليل منفعلًا : “هذا هو الهجص وشغل التلات ورقات !”.

استغلت جريدة “المصري اليوم” التصريح ونشرت تقريرًا تحت عنوان “ملاسنة مفتعلة تفتح جرحاً قديماً بين منير ويحيي خليل”، كان أشبه بتوثيق للملاسنات المتبادلة بين منير وخليل ، وجاء على لسان خليل في التقرير أنه لم يسيء لمنير، وعلاقتهما بلا مشاكل، وكل واحد “راح لحاله”، ولكن المشكلة تعود لعجز البعض ممن يظنون أنفسهم نقادًا عن الفهم، حيث قال: جاء أحدهم لحفل مارسيل وهو غير مقتنع به، وسألني رأيي فقلت له: معندناش في مصر مثله! ولأنه مش فاهم أثار موضوع المقارنة الذي أرى أنه “ملوش لازمة” .

ولم يصمت منير أمام ذلك فرد منير قائلًا في التقرير نفسه: “ياه .. لسة يحيي خليل فاكرني”، وأضاف متسائلا: “أغنياتي أنا ثلاث ورقات وهجص؟ من الذي يهجص؟ أنا أم فؤاد حداد وعبدالرحيم منصور اللذين غنيت لهما في ألبومي الأخير”.

وتساءل منير: هل يصمد الهجص وشغل الثلاث ورقات خمسا وعشرين سنة؟ وماذا قدم يحيي خليل بعد أن تركته بخلاف موسيقي الجاز الأمريكية؟ هل شاهد قبل أن يقول هذا حفلاتي في الأوبرا والدول العربية؟ أنا مطرب محترم”.

الحقيقة أن الخلاف لم يكن لائقًا بحجمهما ، ولكن يظل ما ارتكبه منير في حق يحي خليل تشويها للتاريخ ، أو كما وصفة الكاتب الصحفي أشرف عبد الشافي في مقاله بالأهرام تحت عنوان ” يحيى خليل ومحمد منير .. القصة الكاملة لشبابيك الحرية ” حيث كتب : “ظهرت أجيال لا تعرف أن أحد الأبطال الذين صاغوا هذا الفن الخالد تم إزاحته ! صحيح أن خلافات كبيرة قد حدثت، لكن هذا لا يعطى الحق لطرف أن يرتكب تلك الجريمة في حق طرف آخر ويكتب شهادة إعدامه”.