ناجح إبراهيم يكتب : وداعًا للصحافة المصرية

نقلا عن “المصري اليوم”

 

كان الرجل على قمة المؤسسة، ولكنه لا يجيد الكتابة، وكان عدد الذين يكتبون له أكثر من الذين يقرأون له، ظن الجميع أن هذا الأمر سينتهى بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ولكن الأمر ازداد سوءًا، فهذا رئيس تحرير فى إحدى الصحف الخاصة لا يكتب أى مقال له بنفسه ويجبر بعض الصحفيين لديه أن يكتبوا له ثم ينشره باسمه دون حياء أو خجل، وهو فى الوقت نفسه يدعى أنه يريد إصلاح الكون.

سألت صحفياً شاباً يكتب له: ما الذى يجبرك على ذلك؟ قال: أكل العيش، وإلا سأُلقَى فى الشارع، حيث لا عمل للصحفى اليوم.

أما مدرسة الابتزاز فى الصحافة المصرية فقد ظن البعض أنها ستنتهى بنهاية عهد مبارك، فإذا بها تنتعش وتزداد جبروتاً وطغياناً.

فهذا رئيس تحرير إحدى الصحف الخاصة يظل يبتز وزيراً تدور حوله شبهات الفساد فيسلط عليه محرريه الصغار فى انتظار رضوخ الوزير الذى استسلم لشروط رئيس التحرير وسلمه ما يريده من مغانم شخصية فتوقفت الحملة.

وهذا آخر إذا أراد شيئاً من وزارة كذا مثلاً شن عليها عبر محرريه الصغار حملة شعواء فترضخ الوزارة للابتزاز فتنشر إعلانات فى جريدته بملايين دون أن تفيد الوزارة شيئاً، ويكون نصيب رئيس التحرير منها قرابة 20% والباقى لصاحب الجريدة، حسب قانون الصحافة الخاصة.

أما الابتزاز الأكبر فى الصحافة المصرية بعد 30 يونيو فهو اتهام أى إنسان لا يعجب هذا الصحفى أو ذاك بأنه إخوانى، وأى مؤسسة تضايقه بأنها تدعم الإخوان فيرضخ هؤلاء فوراً، لأنهم يعلمون أن مصيرهم إلى السجن ومصير المؤسسة إلى الإغلاق.

لقد زاد عدد الصحفيين بعد سنوات الثورة من ألفى صحفى سنة 2010 إلى 12 ألف صحفى الآن، ومعظم هؤلاء الصحفيين الجدد غير مؤهلين جيداً للعمل الصحفى المهنى الاحترافى، وبعضهم دخل الصحافة من أبواب الواسطة أو التقارب الأيديولوجى أو الوراثة والقرابة أو بطرق أسوأ من ذلك.

فمنذ عدة سنوات طلبت BBC مترجمين تقدم لها 13 ألف مترجم لم ينجح منهم سوى واحد فقط، ومنذ سنوات طلبت MBC محررين صحفيين مصريين برواتب مغرية فتقدم لها عدد كبير لم ينجح منهم أحد رغم سهولة الامتحان الذى كان فيه (لخص هذا الخبر/ كبرهذا الموضوع/ ما عملات الدول الآتية؟ عواصمها؟… إلخ).

فى إحدى الصحف القومية الكبرى، وعلى إفطار المغرب، تحلق 75 صحفياً فيها واصلوا النهار بالليل عملاً وهم صائمون فقال أحدهم للآخر: فى هذه المؤسسة أكثر من 700 صحفى لا يعمل منهم بحق سوى هؤلاء الذين يحملون هم الجريدة فوق رؤوسهم ويعشقون العمل، أما الباقون فلا تعرف لهم أثراً.

الصحفى المصرى الشاب الآن يعانى فى حياته أشد المعاناة، وصدق أحد رؤساء التحرير القول: «الصحفى أصبح مستواه المعيشى أقل من الحرفيين»، وأزيده قولاً إن بعض الصحفيين الشباب لا يجدون وسيلة للإنفاق على بيوتهم سوى دعم أسرهم، وبعضهم يلقى ألوان الذل من رئيس أو مدير التحرير، فهذا صحفى شاب كان رئيس التحرير يسرق تحقيقاته الصحفية وينشرها باسمه طواعية، ورغم ذلك فهو راضٍ سعيد فى مقابل أن يعتقه بورقة واحدة تدخله النقابة، ورغم ذلك ظل رئيس التحرير يماطله طويلاً فى هذا الطلب البسيط، فهل يستطيع أحد أن يفعل ذلك مع حرفى؟! الاستعباد والذل فى الصحافة أكثر من استعباد الميكانيكى لـ«بلية الصبى».

الصحفى فى بريطانيا وأمريكا وفرنسا راتبه من أعلى الرواتب، أما توزيع الصحافة المصرية فهو كارثة، فبعض إصدارات الصحف والمجلات أقل من ألف نسخة وبعضها يعود مرتجعاً، وبعض المؤسسات تصدر عشرات الإصدارات لا يوزع منها إلا القليل، وتحقق خسائر فادحة يتحملها المصرى المقهور دافع الضرائب، وفى بعض مدن الصعيد لا تجد بائعاً للصحف فيها رغم أن تعدادها نصف مليون، وفى المقابل «نيوزويك» توزع قرابة 10 ملايين، أما «واشنطن بوست، وفاينانشيال تايمز، وديلى ميل» فتوزع كل منها قرابة 7 ملايين نسخة.

قوة الصحافة من قوة المجتمع، وحريتها من حرية المجتمع، وتقدمها من تقدمه، فلا يمكن أن تنشأ صحافة حقيقية فى مجتمع تعوزه الحريات وتغزوه الصراعات الفارغة.

الآن لا يوجد كاتب مرموق فى الصحافة المصرية ينتظر الناس مقاله بلهفة وشوق إلا من ندر، قد لا تجد الآن أمثلة للكبار مثل إحسان أو الشرقاوى أو هيكل أو مطاوع، أو مصطفى شردى أو بهاء الدين أو موسى صبرى.

والخلاصة أن ارتفاع سعر الورق ضعفين أو ثلاثة كان القشة التى قصمت ظهر الصحافة المقصوم أصلاً، فالصحافة ماتت مع موت الحريات العامة، وهذا الارتفاع سحب فقط أجهزة الإنعاش عنها، وداعاً للصحافة الحرة والمهنية والنظيفة.