من داخل غرفة الولادة أحدثكم: أنا والصحافة وياسين

إسراء النجار

(1)

سرير متحرك يحملني ويتحرك ببطء داخل غرفة عمليات الولادة التي هي أشبه بمربعات لعبة “السلم والثعبان”.. صحيح لا أسمع توجعات ولا توسلات ولكن قلبي كان يخفق بشدة.. مرت الثواني بين جدران الغرف وكأنها ساعات وكنت أتصبب عرقًا نتيجة ارتفاع الضغط المفاجئ الذي جعلني ألد قبل ميعادي.. أخيرًا وصلت لمحلي المجهول وكل خلفيات وقراءات إهمال كبار الأطباء والمستشفيات تتجول بخاطري.. ناهيك عن ابني الذي فكرت في أن أجري له لاحقًا تحليل DNA كي أتأكد من نسبه بعدما تخطئ الممرضة وتبدّله بطفل آخر ربما نزعت جزء من أعضائه! سيناريوهات صحفية سيئة كانت تحضر وتغيب سريعًا وأنا أحتمي بالأذكار والقرآن.

(2)

“سمعنا أن جوز حضرتك بيشتغل صحفي”. كانت هذه المقولة من الطبيب المساعد كفيلة بأن تفصلني عن حالة الغثيان النفسي التي كانت تحيطيني باعتباري ألد لأول مرة، حالة الفصلان لم تكن من السؤال فحسب ولكن نظرات الترقب والدهشة لطاقم التمريض والمساعدين المتواجدين بالغرفة جعلتني أبتسم قائلة: “وأنا كمان صحفية”.. ليرد الطبيب المساعد ضاحكًا “ربنا يستر” ومن ثم شرح لي أن مرافقة الزوج لزوجته أثناء الولادة “مرفوضة” إلا لو كان طبيبًا. وتوقف لثواني عن الحديث ثم استكمل مازحًا: إذا كانت مهنة الزوج المخالفة للطبيب مرفوضة قيراط فالصحافة مرفوضة 24، وواصل: “مشوفتيش حلقة ريهام سعيد عن حمامات المستشفيات؟”، لترد إحدى العاملات: “نفسي أعرف صوروها إزاي؟!”

(3)

ما إن حضرت سيرة ريهام سعيد حتى انتفضت قليلًا وأجابت بحسم: “لأ مليش فيها”، لتزداد نظرات الدهشة في أعين بعض العاملين والممرضات وكأن الإعلام توقف عند هذه المذيعة.

المهم حضرت طبيبة التخدير الشابة وساعدني طاقم التمريض كي أتخذ وضعية الجلوس حتى يتمكنوا من حقن المخدر في ظهري. في هذه اللحظات تناسيت تمامًا حواري مع الفريق وعادت مشاعر الخوف والغثيان وأنا أرى حقنة المخدر الضخمة وسنها المدبب. ولكن ابتسامة الطبيبة وهدوءها أراحني قليلًا وقبل أن تبدأ في حقني نبهها الطبيب المساعد قائلًا: “خلي بالك دي صحفية وممكن تفضحنا”، لتبدأ في حقني، وهنا شعرت بالألم مع أول “وخذة” ولكنها طمأنتني شارحة أن مفعول المخدر لن يشعرني بباقي الوخذات واستكملت عملها والطبيب يتابعها بترقب، إلى أن أصابتني برعشة سريعة تشبه الكهرباء السارية في ساقي، وما إن عبّرت عن الألم حتي وقف الطبيب إلى جوارها قائلًا : “عرفتي الغلطة فين”، ولا أدري في هذه اللحظة من منهما استكمل حقني، ولا طبيعة الغلطة، ولا كانت فين!

(4)

مع عودة الخوف وبداية عدم شعوري بنصفي السفلي -وهو إحساس قاسي جدًا بالعجز أشعرني بنعم عظيمة نتعامل معها كحق مكتسب- فاجأتني ممرضة ريفية قائلة: “نفسي أعرف الدكتور بينقي الستات الحلوة دي منين”. فهمت إنها معاكسة لطيفة غرضها إلهائي حتى تنتهي طبيبة التخدير، فرفضت قائلة: “بتوهيني ليه؟” لترد: “ما شاء الله صحفية وفاهمة”، وسألتني: “هتكتبي عني إيه بقى؟” وبدأت تسرد لي بحماس اسمها وعملها وتردد علي أسماء باقي الطاقم من الممرضين والأطباء، إلى أن أن حضر طبيبي ووُضعت الستارة أمامي كي تفصلني عن نصفي الآخر.

(5)

مرت دقائق قليلة حاول خلالها كل من الغرفة تهوينها علي بالحديث عن طبيعية عملي وسكني وتفاصيل أخرى بلا قيمة في تلك اللحظة.. المهم أنهم كانوا يحاولون عدم تركي لـ”دماغي” وبالفعل نجحوا.. لأنه بعد نحو 15 دقيقة أخرج الدكتور “ياسين” ووضعه أمام عيني، وإذا بي أتفاجأ به بشدة لدرجة أني ابتعدت عنه ولم أقبله في لحظة قاسية لم استوعب فيها أنه ابني وأنني أمه! لتمر ثوان أخرى طلبت بعدها من الممرضة رؤيته فأحضرته وقبلته، وبعدها واصل الأطباء العملية بينما أنا تائهة في بحر من الدعاء، إلى أن فاجئني طبيبي بهاتفه الذي نزع منه الرقم السري قائلًا: “طمني أهلك”، لم استوعب للحظات لأني لا زالت داخل غرفة العمليات ولا زالت العملية مستمرة، ولكني حاولت تذكر رقم زوجي فأمليت على الطبيب رقمًا خطأ، ورد شخص غريب. بعد ذلك ابتعد عني الطبيب وذهب لينهي شيئًا مع الطبيب المساعد الذي طلب منه بخفة ظل أن يعطيني “فرصة ثانية” تذكرت فيها الرقم الصحيح ولا أدري الآن إن كانت هذه الفرصة تُعطي لكل الأمهات أم أنها “حصرية” خوفًا من الصحافة.

(6)

انتهت العملية واطمأن علي الأطباء وشرح لي الطبيب المساعد بعض التعليمات قبل أن أغادر غرفة العمليات، وأوضح لي أن ألم الولادة القيصرية طبيعي وإننا نتحايل عليه بالمسكنات ولكنه لن يزول ولا بد من التحمل في الأيام الأولى.. ومن ثم بدأت الممرضات عملية نقلي إلى السرير المتحرك تمهيدًا لمغادرتي العمليات ونقلي لغرفتي. لم أتذكر بعدها وحتى الآن وجوه وأسماء الشخصيات التي قابلتها وحاورتني داخل العمليات باستثناء طبيبي الذي كنت أتابع معه تطورات الحمل. ولكنني مدينة بالشكر والامتنان لكل الطاقم حتى طبيبة التخدير.

الشكر هنا ليس لحسن المعاملة والتصرف والإنسانية التي من المفترض أن تكون سمة سائدة، ولكن لأنهم أصقلوا التجربة بتفاصيل إنسانية وجعلوني أتذكرها بروح الدفء والمرح إضافة إلى أنهم أبدوا بعض الاحترام والشغف الصادق بالمهنة التي باتت تفقد أعز ما تملك تباعًا.