نسمة سمير تكتب: تلك اللحظات القاسية

نظرت إلى هاتفها تنتظر رسالة من شخص تعلم أنها لن تأتي ولكنها تحتاج إلى تلك الرسالة، كانت ما زالت لم تتعافَ بعد من الوعكة الصحية التى تعرضت لها مؤخَّرًا، ما زال في يسار صدرها وجع وهى تقول همسًا: “ألم يحن لهذا الوجع أن يهدأ بعد؟”، دقات قلبها سريعة كأنها شخص يهرول خوفًا، وضعت كفَّها على قلبها كأم تحتضن صغيرها لتبثّ بعضًا من السكينة فيه حتى يطمئنّ ويغفو.

صوت أم كلثوم ينبعث من الراديو القديم الذى ورثته عن جدتها “ماخطرتش على بالك يوم تسأل عني؟”، والموضوع بجوار شباكها المعلَّق به عصفوران “بندق وبندقة”، وبعض أوراق الريحان المبلَّل بالماء، تحاول أن تتنفسه كعادتها ولكنها لا تستطيع، فصدرها لم يشفَ بعد، التعب يعتصر روحها ولكنها لا تستطيع وصف ما تشعر به إلا في همهمات بسيطة، فالمرضى يعجز لسانهم عن وصف ما يعانون منه.

ما زال صراخها من “كريزة القولون”، وعدم قدرتها على تنفس الهواء ومقتطفات ما بين غيابها عن الوعي واستيقاظها، حاضرين معها، نظرات الخوف ومحاولة جسدها المنهك المقاومة وعدم السقوط، لا تريد أن تضعف ولكن ما تحملته الفترة الماضية كان أقوى منها، ترى الألم يُخرِج لها لسانه، ويرقص على آهاتها التى تُخرِجها بصعوبة لتخبر من حولها أنها ما زالت على قيد الحياة.

تنهض لتأخذ حمَّامًا يُشعِرها بالحياة قليلًا، دموعها تحاول الخروج وهى تتوسل إليها أن لا تفعل ذلك، تدخل الحمام تعلّق منشفتها، وتشعل السخان، وتلك ليست عادتها، فهى تعشق الماء البارد، ولكن هذه المرة لم تكن تمتلك الجرأة الكافية لتحتمل قسوة المياه الباردة، ملأت البانيو بالمياه ووضعت سائل الاستحمام برائحة الخوخ التي تعشقها واحتضنت الماء كأنها لم تجد الأمان إلا بين تلك القطرات الدافئة.

نرشح لك : نسمة سمير تكتب: “غنا مصري” يرد روح “بهية”

تذكرت ذلك اليوم الذى وقعت بعده ولم يتحمل جسدها الهزيل قسوته، بحلقها آهات عالقةكانت تودّ أن تصرخ بها يومها ولكن كتاباتها هى المكان الوحيد الذى يتسع لذلك، ترى ماكينة حلاقة أبيها تتذكر عطره الممزوج برائحة السجائر وجلوسها معه فى ورشته وهو يقول لها: “اتدللى يا حبة عين أبوكى”.

ربما الدنيا تجعلنا نفترق عن أحبابنا ونحن تحت سماء واحدة وبيننا بعض الأمتار، أصبح أقلّ صوت ينتفض جسدها مذعورًا منه، وكان صوت الألعاب النارية فى الشارع الخلفى لمنزلها احتفالًا بزفاف جارتها يتحداها مصرًّا على إخافتها، بات الأمر يصعب على عقلها إدراكه، فهى تجاوزت حدود المنطق والإدراك، وأصبح كل شيء يرعبها، وصوت صراع روحها مع اليأس يكاد يصيبها بالصمم.

تذكرت أول مكالمة مع صديقها المقرب، وشعورها بالفخر مع كل نجاح يتوصل إليه، صوت ضحكاتهما فى العروض المسرحية، نقاشاتهما الجدلية، إفطارهما معًا فى الشتاء فى وسط البلد، سيارته الصغيرة “زقزوقة” التى كانت تشعر بحب شديد لها، فهى تعشق كل ما هو قديم، لم تحب سيارته الجديدة موديل هذا العام، غضبه منها، فرحته بنجاحها، هدية عيد ميلادها التى ما زالت تحتفظ بها مع متعلقات جدتها كأنها ميراث تخشى أن يضيع، كتاباتها عنه، تفاصيل وجهه وعينيه وصوت صمته.

شعرت كأنه يناديها بالاسم الذى أطلقه عليها “زمردة”، ولكن وجدت صوته بقلبها وليس بالواقع، تمنت أن يعاتبها فالأصدقاء لا يترك بعضهم يد بعض عند أول خلاف، تعلم أنها أخطأت فى حقه، ولكنه كان قاسيًا معها ولم يلتمس لها العذر، تريد أن تصرخ بوجهه “لا تتركني يا صديقى”، فهى كل ما تتمناه أن تحتفظ بالأشخاص الذين عقدت معهم صداقة متينة وأخبرتهم بنقاط ضعفها، كانت تريدك أبًا وصديقًا ومعلّمًا وسندًا لها فى تلك الحياة.

تخاف الخسارة، فتصبح مجنونة تحطّم كل شيء، وهو كان يعلم ذلك، لماذا لم يربّت على كتفها؟ كل ما كانت تحتاج إليه أن يمنحها بعض الأمان، فالمريض كل كلمة له كأس ماء لظمآن، خصوصًا إن كانت من أصدقائه وأحبابه، لا ينسى الكلمات القاسية التى سمعها منهم ولا نظرات الشفقة التى تسببت فى انهمار دموعه ولا إحساسه بالضعف الذى لم يقدّره من يحبهم ومارسوا قوّتهم ضدّه وهو يتوسل إليهم بعينيه ألا يرحلوا، لم تنسَ دموعها التى ذرفتها تلك الليلة.

صوت ضحكاته المميَّز يسرى فى روحها، هناك فى مكان لا يعرفه سواها تراه وتتحدث معه وتعاتبه، مكان تمتزج فيه الأحلام بالواقع والأمل بالألم والفرح بالوجع، تقترب منه وصوت أم كلثوم يدمي قلبها، تقترب أكثر فأكثر، تنظر فى عينيه، وهنا تتحدث “الست” بدلًا منها “طالت الايام.. تعالى لي قوام.. أنا عندي كلام بدي أقوله لك”، وتمنَّت أن تمطر الدنيا هذا الشتاء وهو معها.