محمد فتحي يونس يكتب: مشاهد من الجحيم

نقلاً عن التحرير

(1)

قبل 12 عاما قررت السلطات المحلية حفر طريق يربط بين مدينة ريفية ومجموعة من القرى لا يزيد طوله عن عشرين كليو متر، كان السبب المعلن وقتها البدء في إدخال هذه القرى لمشروع ضخم للصرف الصحي، الحفر امتد من الطريق إلى دواخل القرى ليحولها تدريجيا مع قدوم كل شتاء إلى مستودعات للوحل، و الطريق تباعد بين القرى وبعضها وبينها وبين المدينة الصغيرة، وما كان يقطع في خمس دقائق تباعد إلى ما يقرب الساعة.

خلال 12 عام تغيرت ملامح عديدة على إثر هذا القرار الذي يبدو بسيطا، ومغرقا في المحلية؛ مجرد تدمير طريق لعدة كيلومترات؛ ابتعدت سيارات المواصلات اللائقة خشية اللجوء لصيانة مكلفة، مرضى تزهق أرواحهم قبيل الوصول للمستشفيات، أطباء يهاجرون القرى ويغلقون عياداتهم، لضياع الوقت ذهابا وإيابا، حتى اختيارات الطلاب لكلياتهم باتت مختلفة، وحين تأتي الانتخابات يصبح إصلاح الطريق وعدا انتخابيا لا يتم تنفيذه، أو يتراجع عنه مرشح خاسر كعقاب جماعي لمن لم يختاره.

تتراجع السياسة والبرامج ويصبح التنافس الحزبي رفاهية إزاء هذا الوضع.

يترسخ مفهوم النائب الخدمي، وستسود قيم معطلة للتطور، سيظهر الرجل الذي يعد بإصلاح الطرق ويوظف الأقارب، ويعد بحل المأساة المستمرة. لا مكان هنا للسياسة والرقابة والمحاسبة.

تتراجع التساؤلات حول الخسائر والوحل وفساد المقاولين ومعاناة الناس لأكثر من عقد أما أي بادرة إنقاذ يلوح بها منقذ.
لن يتذكر أحد أن السياسة والرقابة والديموقراطية ودراسات الجدوى و ضبط الزمن كانت كفيلة بمنع المأساة من البداية، أو استمرارها طوال هذه السنوات.

وهذا عينة مجهرية لما يحدث في كل مصر.

(2)

كانت السكك الحديدية وراء ازدهار إمبراطورية اسمها أميركا، بدأ الفكرة جون ستيفنسون أوائل 1812، كان يدرك أن هذه الخطوة ستنتشل الدولة الناشئة إلى القمة، عبرها انتقلت سريعا السلع و الخدمات وذهب الناس لفص العمل الناشئة بعيدا، وخلال خمسين عاما دشنت واحدة من أكبر الشبكات الحديدية في العالم.

قبل ذلك بسبعة قرون نقل الأوروبيون فكرة تبدو تافهة عن الصينين، اختراع طوق للحصان، مكنته من جر عربات أكبر حجما من تلك التي كانت تجر بواسطة الثيران، وساهم ذلك في حرث مساحات زراعية أكبر، واستصلاح أراضٍ ظلت جرداء لقرون، وزاد استخدام الحصان في تحريك الطواحين، كما نشطت بشكل أكبر أشكال التبادل التجاري بين البلدان، وانعكس ذلك إيجابا على أشياء أكبر من تخيلها، من بينها زيادة الموارد الزراعية بشكل مفرط، وبالمثل الصناعية، ساهم الطوق حتى في تغيير حسابات الامم الاقتصادية التقليدية من كون البلدان أسيرة مواردها الطبيعية المعروفة سلفا، فاختراع الطوق ضاعف من الموارد
وتغير وجه الحياة ومستوى رفاهيتها، وتطلعات بشرها، وتفكيرهم، وبالتالي سياساتهم.

تعلموا الدرس من القرن الحادي عشر فيما نحن نعود لأجوائه..
إلى عصر ما قبل الطرق الممهدة.

حين بنيت القلاع و الأسوار وبقيت الشوارع موحلة

(3)

نقلت “السوشيال ميديا” مزادا طريفا في مدينة نبروه الريفية بجوار المنصورة، قطعة أرض صغيرة تبلغ مائتي متر، بلغ المتر فيه سعرا جنونيا، 205 ألف جنيه.

والسعر يعكس بمفردات السوق الحر القائمة على العرض و الطلب أن هناك أزمة عرض، ناتجة بدورها من تراجع الأراضي الصالحة للسكن.

كما يعكس أزمة أخرى خفية وممتدة منذ عقود، وهي السكوت على مصائب الاستثمار الأهلي في العقار، وكيف بات السوق ملاذا لغسيل الاموال أحيانا، وموضعا لمخالفات بنائية وجرائم لمسئولي المحليات، وقبل ذلك كله بات بلا معايير دقيقة حاكمة لبورصة السعر.

ما جعل الحصول على سكن كريم لقطاعات عريضة تعيش في الريف أو مدنه حلما صعبا.

(4)

في كتابه القيم “نهاية الفلاح” الصادر عن المجلس القومي للترجمة استعرض المؤلف حبيب عايب ما أصبح عليه الفلاح بعد خمسين عاما من الإصلاح الزراعي؛ حيث تخلص أصحاب الملكيات البسيطة و المؤجرين من أراضيهم لصالح ملاك كبار، تنفيذا لتوصيات البنك الدولي بانتشال القطاع الزراعي من الدائرة الحمراء.

أي التخلص من فقراء الزراعة دون التخلص من الفقر

تخلى الفلاح البسيط عن الارض جراء ارتفاع عبء الإيجار والتكلفة وضعف العائد، وهو ما وضع الفلاحون أمام ثلاث مصائر سيئة، أولها عودة ظاهرة الفلاحين بلا أرض بما يمثله من انتكاسة اقتصادية واجتماعية لساكني الريف، أو ملئ الفراغات الحضرية الفقيرة بفقراء الريف أو انفجار الوضعين السابقين بالتزامن؛ الريف الفقير بفلاحيه، وضواحي المدن الفقيرة بفقرائها.
فيما خاب رهان الحكومات المتعاقبة حول إدماج الفلاحين في فلك الليبرالية الاقتصادي، لتجر الفلاح للمستقبل، مع تخليه عن المحاصيل الرئيسية لصالح محاصيل التصدير.

يقول مؤلف “عايب” إن الفلاح التقليدي بات بعد خمسين عاما من الإصلاح الزراعي بلا أرض يزرعها.

ويقول مزاد نبروه إنه بات بلا أرض يسكنها

وتقول قصة ال12 عاما إنه بلا أرض ينتقل عبرها للحياة.