محمد جعفر يكتب : كتاب الماشاء .. الكتابة بحبر الإحتراف

صدرت قبل أيام قليلة وعن دار المدى رواية “الماشاء” للروائي الجزائري سمير قسيمي. ورغم أن النص متخيل بالكامل إلا أن تمكن الكاتب من التلاعب بالزمان والمكان وقدرته على الإقناع والإيهام بالواقع مع استغلال لأحداث ووقائع تاريخية حقيقية وتطويعها لصالح ما يكتبه جعلنا أمام نص فريد جدير بالتأمل والقراءة.

هل هي رواية بوليسية؟

قد يكون هذا ما يعتقده القارئ للوهلة الأولى وهو بصدد متابعة تلك المقدمة الملغزة وأخبار جوليان هاد وميشال دوبري وجيل مانسيرون. كما أن اشتغال الكاتب على فكرة المؤامرة واعتماده على شخصية التحري وجعل النص يرتكز على مجموعة ألغاز مبثوثة في النص لصالح حل يأتي في الأخير. واعتماد عنصر التشويق مع التوتير وتسارع الإيقاع الزماني والمكاني يجعل العمل يقترب من النوع البوليسي دون أن يكونه ما دام الكاتب أعطى في الوقت نفسه الأهمية لعناصر أخرى جعلها رافدا للعمل وواحدة من مقوماته. إنه لا بد يصر على عنصر التشويق والإدهاش وشد انتباه القارئ وتحفيز فضوله من خلال هذا العنصر الذي غالبا ما يثبت فاعليته.

من هو البطل في الرواية؟

وهل من شخصية رئيسة في العمل؟ ينتابك هذا السؤال كلما أوغلت قراءة في النص. إنك لا تفتأ تكتشف شخصيات جديدة (قدور الفراش، نوى، السايح، حبوب، سيباستيان دي لاكروا، خلقون، الوافد بن عباد وآخرون..) لتتأكد أن العمل يقوم على لسان أبطال عديدين أفرد الكاتب لكل واحد منهم مساحة مناسبة وحيزا ملهما في النص. وجدير بالذكر أن الكاتب في عمله يعزز فكرة البطل على حساب الشخصية الروائية، ما دامت كل شخصية مضطلعة بوظيفة معينة ومحددة (كانت مخيرة في ذلك أو مسيرة) وإن اهتم بإبراز خصوصيتها وجوانبها المختلفة كل ذلك محدد بالإطار الزماني والمكاني. كما أن الجميع عنده فاعل وله دوره البارز في سيرورة الأحداث.

البعد الفلسفي

انعكست في أوروبا وبقية العالم الآراء والنظريات الفلسفية الكبرى في الروايات الأدبية والتي تعد اليوم أهم مترجم ومرجع لها، ويكفي أن ننظر لأعمال تولستوي، دستوفسكي، سارتر، كامو، كونديرا… لنتأكد من هذا. وإن ظلت الرواية العربية تستمد هويتها وألقها من التجارب العالمية إلا أنها ظلت بعيدة كل البعد عن الخوض في هذا المجال، خصوصا وأن الفلسفة غالبا ما تتعارض مع الدين فتجعل صاحبها في موضع اتهام صريح. كما أن هذا النوع من الروايات لا يلقى الرواج المطلوب عندنا كون القارئ لا يملك الزاد المعرفي والقدرة على مواجهة الأسئلة والعوالم المجردة التي يطرحها. كما أن تكوين

بشار إبراهيم يكتب : “كتاب الماشاء”… وشاية العارفين

الكاتب واستيعابه لمختلف النظريات الفلسفية والقدرة على التأمل قد تضع كل تجربة في هذا المجال على المحك ما يجعله ينسحب لصالح صراعات المحيط الاجتماعية والسياسية. والجميل في رواية الماشاء أن سمير قسيمي يراجع كل الأطروحات الدينية واللاهوتية قبل أن يقيم عوالمه. ينهل منها ويزيد عليها في تصور جديد للخلق، مدعيا أننا أبناء الخطيئة ومن نسل هلابيل. والمؤكد أن ما صوّره وتصوره ليس شطح الخيال بل وليد تساؤلات عديدة ورأي تكوّن بعد بحث معمق في مختلف الديانات والمتيولوجيا. وأحب أن أنوِّه وأقول أن هذه الآراء (حول الله، الخلق، الوجود، المصير) قد تجدها تتكرر في مختلف أعماله السابقة في شكل إشارات بسيطة وتلميحات مما يدل على أن الكاتب مهجوس بها.وهو هنا يفرد لها مساحة أوسع ويشتغل عليها كتيمة. إنها رواية ببعد فلسفي لم نعتده في خطابنا الروائي والذي لم يتخلص بعد من حس العلاقات الاجتماعية والإيديولوجيا.

طابو الدين

لا يضعنا طابو الدين في مواجهة مباشرة مع السلطة لكنه يجعلنا في مواجهة مباشرة مع المجتمع والعرف والتقاليد. ولأن الكاتب يعي جيدا مجاله ويدرك أن الرواية هي فن القول بالنقيض وضد السائد والممنوع والثابت، وتعمل على تكسير الأنماط المستهلكة وإعادة إنتاج وعي بديل التعويل فيه على العقل وتدوير السؤال يلتزم بمسؤوليته كاملة ويقدم لنا عملا غير تقليدي يجنح إلى طرح تصور مختلف لبدء الخليقة ومنه ينسج مجموعة علاقات متشابكة متداخلة في الزمان والمكان والهدف منها حفظ سر هذا الوجود (السر المكتوب والموجود في ألواح ثمودية) لأجيال عديدة بعيدا عن الدهماء والعامة. لنكتشف أن العمل يقوم أساسا على فكرة تثوير الدين لا نسفه. ويكون بذلك قد فتح المجال كبيرا للسؤال عما نعتبره يقينا ومطلقا. كما يكون العمل صادما في بعض جوانبه للقارئ البسيط الذي لم يعتد قراءة أعمال مماثلة.

التجريب وخصوصية (اللغةـ الزمان ـ المكان): لعل ميزة الكتاب الجدد ميلهم إلى التجريب رغم خطورة هذا التوجه على حساب ما تتيحه الرواية الكلاسيكية من أفق أرحب (سهولة الكتابة، وإقبال القراء) لكن ما يميز المبدع سمير قسيمي قدرته على كسر الهوّة بين النص النخبوي والجماهيري عبر خلق توليفة خاصة به على مستوى الشكل ونمط السرد وزاوية الرؤية ومستويات اللغة وتشكيل بنية الزمان والمكان، كل هذا مندمجا. مما يدل على أنه متمكن في مجاله. وكمثال لما نقول يكفي أن ننظر إلى مستوى الخطاب في هذا العمل، فلغة الأكاديمي ليست هي نفسها لغة العامة، كما تختلف اللغة أيضا عبر امتدادها التاريخي. فلكل حقبة لغتها الخاصة بها وكذلك يجب أن نميز تلك اللغة المتأثرة بالديني عن تلك المتأثرة بالصوفية عن تلك المتأثرة بالشعر في عمومه إيحاءً ومعنى. والتحكم في كافة هذه المستويات لا يمكن أن يكون متاحا للجميع، ناهيك أن الحكاية مختلقة من أساسها وتمتد عبر حقب تاريخية عديدة ومتباينة وطويلة دون فقد السيطرة على سيرورة الأحداث أو الإخلال بالنسيج العام للعمل والذي قد يؤدي مباشرة إلى إحداث عطب وكسر في السياق العام للنص

لا يمكن تداركه مما ينتج عنه اضطراب القارئ وعزوفه عن فعل القراءة والمتابعة. كما يتقاطع العمل مع التاريخي (مقاومة صالح باي للاستعمار الفرنسي كمثال) دون أن يحدث شرخا فيه. بل إنها يمنحه طابع الملحمة ويزيد بعده الأسطوري والشعبي.

في الأخير أقول إن الماشاء رواية مختلفة وجريئة وسابقة في المتن الجزائري والعربي، كتبت بتقنية عالية وبحس أدبي لا يرقى إليه كثيرون. وانفتحت على أفاق أوسع من حيث التجريب والتمكين والمساءلة. كما استطاع كاتبها استلهام التاريخ وتطويعه لصالحه مع شد كامل لانتباه القارئ عبر حبكة متقنة وقوية أجاد فيها تطويع شخصياته لصالحه بما يدل أنه محرك دمى بارع. ولعل عيب الرواية الوحيد أننا لم نعتد قراءة أعمال ناضجة مماثلة.

نرشح لك

[ads1]