أحمد رزق الله :ولكل نوستالجيا رجالها

انتهى العام 2014 بما له وما عليه. غير أن بنظرة سريعة على المصريين في هذا العام (بعيداً عن السياسة واستقطاباتها) يمكن القول أن هناك حالة ما قد غلبت علىجانب كبير منهم خلال العام المنصرم، وهي حالة النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي والشوق إلى أيامه. سيّطر هذا الشعور على الغالبية العظمى منّا سواء من الأجيال السابقة أو من الشباب. فعلى الصعيد السياسي، كم من مرّة برّر الكثير من مريدي الرئيس السيسي حبهم غير المشروط لهذا الرجل بكونه يذكّرهم بجمال عبد الناصر وبقوة شخصيته. بينما الآخرون -وخاصةً من الأجيال اللاحقة- كانت وسيلتهم للهرب من الإحباط الذي أصابهم بعد انشغالهم لأربع سنوات بصراعات سياسية لم تسفر عن الكثير، هي العودة إلى ذكريات طفولتهم خاصةً إن كانوا من مواليد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي والذين لحقوا ببداية طور التكنولوجيا التي سهّلت عملية توثيق بعض هذه الذكريات (على شرائط الفيديو) وإمكانية استدعائها مرّة أخرى بعد مرور السنين. ساعد أيضاً على إمكانية استعادة تلك الذكريات بسهولة وجود الكثير من الشخصيات العامة المرتبطة بتلك الأحداث على قيد الحياة واستجابتهم للعودة مؤقتاً للظهور لجهمورهم بعد أن انحسرت عنهم الأضواء لزمن طويل.

 

بين السلبية الممتعة والإيجابية المجهدة

تأمُّل هذه الظاهرة يجعل من الممكن التمييز بين نوعين من هذه النوستالجيا، واحدة سلبية والأخرى إيجابية. فالنوستالجيا السلبية هي مجرد نوع من البكاء على ما آلت إليه الأحوال وترحّم غير مجدي على تلك الأيام التي تحمل ذكريات سعيدة أو لم تكن محمّلة بالهموم والمسئوليات. مجرد استعادة للزمن الماضي دون هدف محدد ودون محاولة الاستفادة منه أو البناء عليه حتى وإن أدت إلى ارتسام ابتسامة حالمة على وجه أصحابها. أما النوع الثاني فإيجابيته تكمن في أن صاحبهايستمتع بالرجوع إلى ما كان ولكن لا يكتفي بذلك بل يعمل على تحليل (ولو بسيط) لأسباب ارتباط هذه الذكريات بالبهجة (أو عدم ارتباطها) بل وقد تصل إلى استعادة هذه الأحداث من الماضي وإعادة قراءتها مرة أخرى في الحاضر لفهم ما استعصى فهمه فيما سبق (سواء لنقص المعلومات أو لعدم نضج واكتمال العقل في فترة حدوث تلك الذكريات) وربطه بالأحداث الجارية.

النموذج الأنجح حالياً للاستثمار في الذكريات الماضية والغوص في العوامل التي أدت لنجاحها هو ما يقوم به فريق عمل برنامج “صاحبة السعادة” بقيادة إسعاد يونس والذين نجحوا في إعادة تسليط الأضواء على عدد من الشخصيات (خاصةً الفنانين) ممن ارتبطوا بالبهجة منذ عشرين وثلاثين عاماً ومحاولة تفسير نجاحهم في صنع السعادة وفهم أسباب غيابهم وغياب الفرحة عن الأيام الحالية.

 

تحليل الحاضر بالماضي.. كرة القدم نموذجًا.

أما عن إعادة قراءة ذكريات الماضي بعيون الحاضر (والتي تعتبر خطوة لاحقة قليلاً ما نقف أمامها) فقد تعرضت لها شخصياً منذ فترة بسيطة حين أخذت قراراً تأخر طويلاً بنقل محتوى الكثير من مباريات كرة القدم التاريخية والبرامج الرياضية التي قمت بتسجيلها في حقبة التسعينيات على شرائط فيديو وتحويلها إلى أسطوانات.

ارتبطت طفولتي (كالكثيرين غيري) بالشغف الشديد بكرة القدم ومتابعتها-سواء مشاهدةً أو قراءةً للمطبوعات المتخصصة- فكان لإعادة مشاهدتي لعدد من مباريات كرة القدم المصرية في فترة التسعينات (أثناء تحويلهاإلى عالم الديجيتال) أثر كبير على النفس أعاد للأذهان ذكريات كان الواحد قد قارب على نسيانها. ولكن الأهم أنها أعادت من خلال التركيز في تلك الذكريات مشاهدة ثانية لعدد من الظواهر التي توقفت – وغيري- سريعاً أمامها في مرحلة الصغر دون فهم مغزاها وقتها. ولكن مع تلك المشاهدة الثانية -بعد مرور ما يزيد عن عشرين عاماً عن الأولى- أدركت ما يقف وراء هذه العادات الكروية المصرية.

تنبهت حينها فقط إلى وجود رابط وثيق بين ما كنت أشاهده في طفولتي في ملاعبناوبين أحداث مرّت بنا أو نعيشها بالفعل متعلقة بالمنظومة الحاكمة لنا وبما وصلنت إليه أحوالنا. أدركت أن كون هاني رمزي اللاعب المصري المسيحي الوحيد الذي تألق في الملاعب المصرية في تلك الفترة وخوفي من الاستفسار عن سبب ذلك -حتى لا أدخل في منطقة محرّمة على الأطفال- هو أمر ليس محض صدفة وإنما راجع لمجتمع بأكمله يحارب أي أقليات تعيش بينه حتى وإن تظاهر بغير ذلك، بالإضافة إلى انغلاق مجتمع الأقليات على نفسه وحرصه على اختيار مجالات دراسة وعمل أكثر أماناً (كالطب والصيدلة والهندسة). فهمت لماذا كان العديد من اللاعبين المصريين (وأيضاً لاعبو دول المنطقة) هم الأقرب دائماً لدخول نادي اللاعبين الذين خاضوا أكثر من 100 مباراة دولية (بل وتصدُّر القائمة أحياناً كما هو الوضع حالياً) رغم عدم نبوغهم الفذ مقارنة بالنجوم العالميين الذين كانوا يصولون الملاعب في تلك الفترة. فعلمت أن في بلدنا والبلاد المماثلة يُقاس النجاح بمدى القدرة على الاستمرارفي المناصبلأطول فترة ممكنة وغلق الباب أمام ظهور أي مواهب جديدة، فنحن شعوب لا تؤمن بتسليم الراية.

وعندما شاهدت من جديد الأهلي يحرز هدفاً في الدقيقة الأخيرة من إحدى مبارياته أمام فرقة ساحلية جماهيرية في عقر دارها، لم أتعجب هذه المرّة عندما سمعت الجمهور يصب جام غضبه على المعلّقالتليفزيوني للمباراة لأن الحكم أضاف وقتاً بدلاً من الضائع أكثر مما يرونه عدلاً. زال تعجبّي لأنني تفهمّت أن غضب هؤلاء على هذا الرجل الذي لا يملك سوى ميكروفون عفا عليه الزمن وشاشة صغيرة تبث صورة أبيض وأسود والذي شاء حظه العاثر أن يكون مكان تعليقه على أحداث المباراة وسط الجماهير (كعادة تلك الحقبة) التي تستنجد به لإبلاغ رئيس لجنة التحكيم “إن كده حرام! وده ظلم الله يخرب بيوتكم”، هو ليس إلا وسيلتهم الأخيرة (أو الوحيدة) للتعبير عن شعورهم بالظلم. فالإعلام في بلدنا -وحتى اليوم- هو مجرد أداة يستخدمها حكامنا كمخدّر لينفسّ به الشعب عن غضبه ويحاول من خلال الوصول لقادة البلد دون أن يدرك أن هذا الإعلام نفسه هو جزء أصيل من منظومة الفساد والظلم.

الأهم والذي أبدًا لم أكن لأدرك معناه في صباي لما تربيت عليه –وغيري الكثير- من احترام لكل من يحمل راية الحفاظ على “استقرار” هذا البلد، هو الدور الذي تلعبه المؤسسة الأمنية بشقّيها في حياتنا. عدت لكرة القدم فتذكّرت احتضان مصر في صباي لعدد كبير من البطولات العالمية والإقليمية (مثل كأس العالم للناشئين 1997) وتذكّرت اندهاشي من دفع المسئولين آنذاك بالألاف من جنود الأمن المركزي لملء فراغ المدرجات، مرتدين ألواناً مزركشة لا تليق بمؤسسة أمنية محترمة وذلك في المباريات غير الجماهيرية حتى لا نعطي للعالم صورة سلبية بأن مدرجاتنا خاوية. لم تعجبني فكرة خداع النفس وخداع الآخرين ولكن اتضح أننا أمام مؤسسة لا تهتم سوى بالمظهر الخارجي وبأن كله تمام وتحت السيطرة حتى وإن كانت هي أكثر العالمين أن الوضع مأساوي وأن قدرتها التأمينية الحقيقية لا تتعدى القدرة على تحريك عساكر الشطرنج التي تملكها وتلوّنها أحياناً. ولكن بقت علامة استفهام الطفولة الكروية الكبرى متعلّقة بالمؤسسة الأمنية الأخرى. تلك التي كانت تفتخر في هذا العصر بألقاب كأس العالم العسكرية التي كانت تقتنصها منتخاباتنا العسكرية لكرة القدم الواحدة تلو الأخرى. كانت المؤسسة تشحن جميع اللاعبين النجوم ممن لا زالوا لم ينتهوا من أداء الخدمة العسكرية ليتنافسوا مع فرق تلعب بمجموعة من الجنود الهواة من الدول الأخرى التي تمنع قوانينها الاستعانة بلاعبين محترفين مهنتهم هي كرة القدم لخوض بطولات تافهة موجهة للترويج عن العساكرولا يهتم بها سوى الدول التي تبحث عن الأمجاد الزائفة. وبالفعل ورغم إدراكنا لتفاهة هذه الانتصارات فكانت تٌقام الاحتفالات وكان يتم تصوير منتخبنا العسكري بقاهر الأبطال في محاولة بائسة لإضافة نصر هزيل جديد يضاف إلى سجل من يحكم البلاد. وحينها فقط أدركت الحقيقة تلك المؤسسة المتوغلة في كل مناحي البلد وبُعدها عن الصورة المثالية التي قام المجتمع بحشوها في رؤوسنا طوال سنوات الطفولة والصبا.

النوستالجيا وذكريات الطفولة قد تكون ممتعة وأحياناً تكون ووسيلة بسيطة لعيش لحظات باهتة من السعادة التي نفتقدها، ولكنها أيضاً ممكن أن تكون آلية لاسترجاع لحظات من الماضيوالإجابة عن بعض علامات الاستفهام التي ظلّت عالقة لسنوات، لعلنا نفهم كيف وصل حال المجتمع والنظام إلى ما هما عليه الآن. ويبقىفي النهاية لكلٍاختياره في نوستالجيته وطريقة تعامله معها.

إقرأ ايضا

مخرج إخواني : مذيعو التوك شو المصريين أولى بالقتل

أزمة نانسي عجرم …مالية

تسريب صورة لإبنة باراك أوباما

شاهين ومينا وشيرين ودعاء ضيوف عمرو الليثي الأحد

حمزة نمرة: أنا ضد المجزرة.. أنا مش شارلي

8 صور من برنامج “أدرينالين”

إسعاد يونس صاحبة السعادة ..بورتريه لهبة علي

لارا اسكندر مع منى الشاذلي

حورية فرغلي: لا فرق بين كيس الزبالة وقميص النوم

تابعونا عبر تويتر من هنا
تابعونا عبر الفيس بوك من هنا